القاهرة | منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ومصر تغلي ضد ما يحدث لأهل غزة من عدوان إسرائيليّ، لكن هذه السخونة المصرية لم يكن لها صدى واسع سوى في كتابات المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت معبّرة عن حالة التضامن المصرية الشعبية مع الفلسطينيين. أما مصر الرسمية، وتحديداً مؤسساتها الثقافية، فكانت «صامتة» في الأيام الأولى التي تلت عملية «طوفان الأقصى»، وكان مثيراً للدهشة أن تجري وتحدث الحفلات والفعاليات التي أعلنت عنها وزارة الثقافة كما هي في مواعيدها، رغم أنّ المؤسسات الثقافية في مصر لم تعتد السكوت أمام أي شيء يحدث للفلسطينيين، خصوصاً أنّ معظم هذه المؤسسات يرفض حتى هذه اللحظة التطبيع مع إسرائيل، وإن كانت الدولة نفسها وقّعت معاهدة سلام مع الإسرائيليين.
«الجوهرة» (2022) للفنان الفلسطيني نبيل عناني

وحقيقة أن عدم قيام المؤسسات الثقافية المصرية بأي تحرك للتضامن مع غزة وأهلها في الأيام الأولى من العمليات ضد القطاع، يرجع إلى أن المجال العام في مصر لا يسمح لأي مؤسسة أو حتى فرد في أن يعبّر عن رأيه سواء ضد أو مع الحكومة! ولذا لم تظهر شعبياً أي حملة للتضامن أو المساندة أو حتى بيان ضد العدوان الإسرائيلي على غزة إلا بعد وجود إشارات تشي بأن الدولة المصرية في حاجة إلى هذا الظهير الشعبي للتضامن معها. تمثلت هذه الإشارات في التعامل الأمني مع تظاهر المصلّين في جامع الأزهر عقب صلاة الجمعة لتكون أولى التظاهرات المساندة للفلسطينيين في مصر أثناء الأحداث الأخيرة من دون التعرض لملاحقة أمنية. أمر لم يكن متوقعاً إطلاقاً، فلا أحد يتظاهر في مصر منذ سنوات، وكانت الإشارة الثانية ظهور ناقلات المساعدات الغذائية والطبية وانتشار صورها في الطريق إلى معبر رفح (حتى اللحظة لم تدخل هذه المساعدات إلى أهالي غزة)، ما جعل المؤسسات الثقافية تشعر بأنّ الدولة وأجهزتها الأمنية تحديداً، لا تمانع إظهار التضامن الشعبي مع فلسطين. وأضيف إلى ذلك بدء استضافة قنوات تلفزيونية تابعة لـ «الشركة المتحدة» المملوكة للأجهزة الأمنية لخبراء يتحدثون عن مدى بشاعة ما يحدث من الجانب الإسرائيلي، وخطورة الدعوات الإسرائيلية لتوطين سكان غزة في رفح المصرية، بالإضافة إلى صدور ما يشبه الأوامر بأن باب التضامن مفتوح ما دام لم يخرج عن الإطار المؤسسي وبعيداً عن الشارع!
نقابة الصحافيين المصرية، إحدى أهم المؤسسات الرافضة للتطبيع، كانت سباقة وقامت بما يبدو أنه أحرج المؤسسات الثقافية في مصر، إذ نظمت النقابة يوماً للتضامن مع الشعب الفلسطيني ضد العدوان الصهيوني، ودعت أعضاءها للمشاركة في وقفة على سُلّمها الشهير. وشهد اليوم الذي نظمته النقابة فعاليات تضمنت تأريخ مقاومة الفلسطينيين، وافتتح معرض الرسوم الكاريكاتورية والصور عن القضية الفلسطينية، وحضر ممثل لسفارة فلسطين للمشاركة، بالإضافة إلى عرض فيلم عن الأحداث الجارية أعده التلفزيون الفلسطيني. لم تكتفِ النقابة بهذا، بل دشنت لجنة مهمّتها رصد جرائم الاحتلال الإسرائيلي، يرأسها نقيب الصحافيين خالد البلشي، وأقامت مؤتمراً صحافياً أول من أمس الإثنين لرصد وقائع الانحياز الغربي في تغطيته للحرب في غزة وعمليات المقاومة، وستعمل اللجنة النقابية على نشر تقرير أسبوعي حول جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين.
عقب ما فعلته نقابة الصحافيين، توالت أحداث وفعاليات التضامن، وكان أبرزها من نقابة الممثلين المدجّنة أمنياً بصورة تامة، التي لا يمكن أن تفعل أي تحرك إلا بعد تلقّي الأوامر بذلك. ودعت النقابة أعضاءها إلى وقفة تضامنية لمساندة «شعب فلسطين ضد العدوان الآثم» كما قالت في بيان رسمي لها. وفي الوقت نفسه، بدأت القنوات التلفزيونية في استضافة فنانين يتحدثون عن دور أهل الفن في الوقوف مع القضية الفلسطينية عبر أعمالهم المختلفة، كما حدث في قناة «الحياة» التي استضافت الممثلة داليا البحيري للتحدث عن هذا الأمر، رغم أنها لم تقدم إلا دوراً عابراً في فيلم عادل إمام الشهير «السفارة في العمارة» الذي يرفض فيه تواجد السفارة الإسرائيلية جواره محل إقامته. أما نقابة المحامين، فقد نظمت حملة للتبرع بالدم لمصلحة الشعب الفلسطيني، وظهر نقيبها عبد الحليم علام، وهو أيضاً رئيس اتحاد المحامين العرب، أثناء التبرع بالدم، وظهرت صور لأعلام فلسطين داخل مقر النقابة في وسط القاهرة، مع استمرار حملة التبرع بالدم لأيام قادمة. وعلى نحو مفاجئ، أعلنت وزارة الثقافة عن تأجيل مهرجان الموسيقى العربية ومؤتمرها في دورته الثانية والثلاثين، التي كانت مقرّرة له في 24 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، وقد مرت أيام كثيرة منذ العدوان الإسرائيلي على غزة من دون أن تشعر وزارة الثقافة بضرورة إيقاف برنامج حفلاتها، فقد أقيمت حفلة غنائية - رسمية طبعاً - في أوبرا الإسكندرية يوم الخميس 12 تشرين الأول، ثم أخرى في اليوم التالي في «معهد الموسيقى العربية». ويبدو أن الوزارة كانت في طريقها لاستكمال خططها لشهر تشرين الأول، ومن ضمنها مهرجان الموسيقى نفسه الذي أعلن عنه بعد عملية «طوفان الأقصى» وبداية عدوان إسرائيل.
مؤتمر صحافي لرصد وقائع الانحياز الغربي في تغطيته للحرب في غزة وعمليات المقاومة

لكن الحاجة السياسية إلى ظهير شعبي رافض لما يحدث في غزة، جعلت الوزارة تنفذ خطة الدولة سياسياً وتوقف خططها الغنائية، ولم تشر الوزارة إلى أن ما يحدث في غزة هو السبب في تأجيل المهرجان أو إلغاء الخطط، كأنها - كما تفعل دائماً - أرادت أن تكون بعيدة عن السياسة تماماً حتى في بيان مقتضب يعلن تأجيل المهرجان الموسيقي.
وأعلن اتحاد الناشرين المصريين عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، ورفض بيان للاتحاد إعلانَ إدارة «معرض فرانكفورت الدولي للكتاب» دعمه لإسرائيل، وطالب الاتحاد الناشرين المصريين بعدم المشاركة في المعرض اعتراضاً على دعمه للعدو الإسرائيلي، وهو ما استجاب له «عصير الكتب»، أحد الناشرين المصريين. ورغم أنّ «مهرجان الجونة» أجّل دورته السادسة إلى السابع والعشرين من تشرين الأول، ولكنه بات من المرجح - وفقاً لمصدر يعمل في المهرجان - إلغاء السجادة الحمراء مع التركيز على أنشطة خاصة بصناعة الأفلام، والابتعاد التام عن الحفلات التقليدية في إطار شعار هذه الدورة «سينما من أجل الإنسانية». وقد انتقد المتابعون عدم إشارة المهرجان إلى ما يحدث في غزة عند إعلان تأجيل المهرجان، بل جاء في البيان «في ظل الاضطرابات والأحداث المؤسفة»، على أساس أن المنطقة لا تعجّ بأحداث مؤسفة دائماً!
ولا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تشهده مصر الثقافية في الأيام المقبلة بشأن ما يحدث في قطاع غزة، وسط تصاعد الحرب في القطاع، وسيطرة الأجهزة الأمنية على أصوات غالبية المؤسسات ذات الطابع الثقافي في البلاد.