وسط قاعة المحكمة، وبينما كان محاطاً بعشرات من عناصر الشرطة الإسرائيلية، وقف الأسير أيهم كممجي من مدينة جنين، بعدما أُعيد اعتقاله عقب انتزاعه حريته في عملية «نفق الحرية»، صارخاً في وجه قضاة الاحتلال وعناصر الشرطة، بالقول: «سنقهركم من فوق الأرض كما قهرناكم من تحتها، النصر قادم رغم أنف الاحتلال (...) ووعد المقاومة لنا سيكون قريباً»، في إشارة إلى الوعد الذي أطلقته المقاومة عقب اعتقالهم، بأنهم سيكونون على رأس أيّ صفقة تبادل أسرى قادمة.على أن هذا الوعد بات يشمل اليوم كلّ الأسرى في سجون الاحتلال، في ظلّ المعطيات الجديدة التي خلقتها عملية «طوفان الأقصى» إثر تمكّن المقاومة من أسر عدد كبير من جنود جيش العدو وضباطه. ولطالما تعهدت المقاومة في غزة بتحرير الأسرى من السجون عبر صفقات التبادل، وهي دفعت ثمناً باهظاً عام 2006 حين أقدمت على خطف الجندي الإسرائيلي، جلعاد شاليط، حيث تعرض القطاع لحرب شرسة آنذاك، وكذلك دفعت ثمناً مماثلاً عام 2014، حين طبّق الاحتلال نظام «هنيبعل»، وارتكب جريمته المشهودة في الشجاعية. إلا أن المقاومة ترى بما لديها من جنود وأسرى كنزاً ستتمكّن من خلاله من الإفراج عن جميع الأسرى في سجون الاحتلال وتبييض هذه الأخيرة، وتحقيق إنجازات إضافية، ومنها رفع الحصار عن غزة.
وأضرم الناطق باسم «كتائب القسام»، أبو عبيدة، الأمل لدى عائلات أكثر من 6 آلاف أسير وأسيرة في سجون الاحتلال، حين أعلن، مساء الاثنين، أن «القسام» تحتفظ بنحو 200 أسير صهيوني، فيما هناك نحو 50 آخرين محتجزون لدى باقي الفصائل. والمعادلة الأولية التي وضعها أبو عبيدة في خطابه، لن ترضى المقاومة ومن ورائها الشعب الفلسطيني بديلاً منها، وهي عدم الإفراج عن الجنود إلّا مقابل الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين. وقال الناطق باسم «القسام»: «نؤكد لكلّ العالم ولكلّ من يريد أن يتدخّل في ملفّ الأسرى، ولأسرانا وأهاليهم إننا مصرّون على أن نُدخل الفرحة بإذن الله إلى كلّ بيت فلسطيني، وهذا وعد قطعناه على أنفسنا». وبحسب المعلومات المتوفّرة من قادة «حماس»، عبر تصريحاتهم الإعلامية، فإن لدى المقاومة تنوعاً في الأسرى، ما بين ضباط برتب عسكرية رفيعة ضمن قيادة «المنطقة الجنوبية» و«فرقة غزة»، وما بين جنود، وهذا سيجعل الثمن الذي تطالب به المقاومة عالياً، لكنها تستطيع الحصول عليه. وعلى الرغم من أن قوات الاحتلال شدّدت من عقابها للأسرى الفلسطينيين منذ بدء معركة «طوفان الأقصى» وقطعت عنهم الماء والكهرباء، وشنّت حملات اعتقالات واسعة طالت 500 فلسطيني، إلا أن آمال هؤلاء وعائلاتهم بالحرية القريبة ظلّت متعاظمة.
ويحظى أبو عبيدة بشعبية جارفة في الشارع الفلسطيني، وهو ارتبط في ذاكرتهم بشكل وثيق باللحظة الأولى التي ظهر فيها ليعلن تمكّن «القسام» من أسر شاليط، الذي أُبرمت صفقة «وفاء الأحرار» للإفراج عنه، مقابل الإفراج عن 1027 أسيراً فلسطينياً. وفيما يؤدي أبو عبيدة دوراً إعلامياً محترفاً، استطاع من خلاله إيصال خطاب المقاومة وفلسفتها، وتوجيه رسائل إلى العدو قبل الصديق بطريقة فعّالة، فهو تمكّن، في التسجيل الأخير الذي كشف فيه عن عدد الأسرى لدى المقاومة، من طمأنة الشعب الفلسطيني إلى أن تلويح الاحتلال بالدخول البري إلى غزة لا يرهب المقاومة، وأن الأخيرة جاهزة للتعامل مع أي قوة غاشمة، مخاطباً العدو بالقول: «لن تكون غزة الا مقبرة لغزاتها وستبتلعكم رمالها، سيكون دخولكم إلينا فرصة جديدة لمحاسبتكم على جرائمكم التي ارتكبتموها في الأيام الماضية».
وقدّمت المقاومة، من خلال أبو عبيدة والمقاطع المصورة، صورة كاملة من التفوق الأخلاقي، إلى جانب التفوق العسكري في القتال، إذ نشرت «القسام» مقطعاً لمستوطنة تحمل الجنسية الفرنسية، وهي تتلقّى العلاج والمساعدة الطبية من مقاتلي «الكتائب»، وتشيد بهم وبتعاملهم معها، مؤكدة أنها حظيت بالرعاية بعدما «أصيبت في يدها وخضعت لعملية جراحية مدّتها 3 ساعات». كما أكد أبو عبيدة أن المقاومة ستطلق سراح الأسرى الأجانب، الذين تمّ أسرهم من «غلاف غزة» يوم السابع من تشرين الأول، حينما تسمح الظروف الميدانية بذلك. وكانت المقاومة قد نشرت، في وقت سابق، مقطعاً مصوّراً أظهر إفراجها عن امرأة إسرائيلية وطفليها.
ويُعدّ أبو عبيدة، المعروف بـ«الملثّم»، أهمّ أسلحة المقاومة الإعلامية والنفسية، منذ ظهوره الأول عام 2006، بهدف الإعلان عن أسر «القسام» لشاليط. وقد امتاز خطابه منذ ذلك الوقت بالاحترافية في قراءة البيانات العسكرية، والوضوح في إيصال المعلومات إلى الصديق والعدو، دون مبالغة أو تضخيم أو تهويل. وفي كلّ مرّة خاضت فيها المقاومة مواجهة مع الاحتلال، كان الناطق باسم «القسام» يترك علامة لا تمحى في ذاكرة الفلسطينيين؛ إذ إنهم، إلى اليوم، يتذكّرون إعلانه أسر شاؤول أرون، ومنع التجوال عن تل أبيب بقرار من القائد العام محمد الضيف، ومن ثم رفع منع التجول لمدّة زمنية قصيرة، والطلب من المستوطنين الوقوف على رِجل واحدة.