ملايين الفلسطينيين في الشتات، لكل منهم حبل سرّة مع فلسطين لم ينقطع يوماً. لم يشعر هؤلاء، منذ النكبة، بأنهم أقرب إلى فلسطين، كلها، أكثر مما يشعرون به اليوم. يدركون أن ثمن العودة هو الكثير من الدماء التي تنزفها غزة. وفي انتظار العودة، يحاولون الوصول إلى من تبقّى من أهلهم وأبنائهم وأشقائهم... بعضهم لا جواب على رسائله، وبعضهم «يفوز» برسائل سريعة محمَّلة بالأسى، فيما تكسر أخبار القتل الجماعي انتظار البعض الآخر وتقضي على أملهم باللقاء مجدداً
لم نمت بعد يا خالة
في مخيم برج البراجنة، تحدّق فِكرت بهاتفها وهي تضرب كفّاً بأخرى وتردّد «حسبي الله ونعم الوكيل»، بعدما استفاقت على خبر تسوية أبراج الندى على تخوم بلدة بيت حانون بالأرض. هناك، في شمال غزة، تسكن شقيقتاها «ولا أعرف ماذا حلّ بهما وبعائلتيهما». تعيش يومياتها في انتظار «الخبر المشؤوم»، وهي تشاهد مجازر العدو في حيّ الرمال وخان يونس وجباليا القريبة منهم. «تخيفني فكرة أن أشاهد على التلفزيون إحدى شقيقتيّ أو أحداً من أولادهما أو أحفادهما جثثاً فوق الركام. التواصل متقطّع معهم مع انتقالهم من مكان إلى آخر». تقفز من مكانها عندما تصل رسالة عبر الـ«واتساب» من ابن شقيقتها، أحمد، يطمئنها فيها: «لا تخافي يا خالة. لم نمت بعد. خرجنا حُفاة بعد اتصال من استخبارات جيش الاحتلال تطلب الإخلاء الفوري للمنازل. نحن نركض من مكان إلى آخر، جارّين أولادنا ولا نعرف إلى أين. مدارس الأونروا لم تعد تتسع للمزيد من اللاجئين».

رح نموت يا ستي؟
«نكبتنا ما وقفت منذ 1948 يمّا»، تقول أم محمد. ابنها خالد الذي يستخدم كرسياً متحركاً ترك منزله في حي الشجاعية شرق غزة «وما بعرف وين صار مع عائلتو». تضيف: «تعبنا دمار وتهجير وقتل. آخر مرة سألني حفيدي: رح نموت يا ستي؟». زوجة ابنها، في آخر رسالة، «قالت لي مش خايفة من الموت. بس خايفة لمين بدها تترك الولاد إذا ما ماتوا». تخشى أم محمد أن تعيش بعدهم، وكلما وصلتها رسالة تتمنى ألا تكون الأخيرة، لأنهم «ينتظرون الموت حقاً. عند كل صوت انفجار يغمضون أعينهم ويقرأون الشهادة، ثم يحمدون الله أن الضرب لم يكن في دارهم».

خذنا لعندك يا خال
ساعات طويلة قضاها كريم وهو يحاول التواصل مع شقيقته في رفح، جنوب غزة، أو مع أيّ من معارفه هناك للاطمئنان عنها وعن أبنائها، بعدما شاهد على التلفزيون منزلها مدمراً. لم يعرف ما إذا كانت هواتفهم مقفلة بسبب انقطاع الإنترنت أو التيار الكهربائي. «يا عالم حدا يطمّني عنهم، مالكم بتردّوش؟ هني داخل البيت؟»، كتب على صفحته على «فايسبوك» مستغيثاً بالجيران، قبل أن يأتيه الرد «العوض بسلامتك». يقول: «أختي وبناتها وزوجها. قضوا على كل عمري»، مستذكراً ابنة شقيقته في آخر اتصال تقول له: «خذنا لعندك يا خال». يسأل: «هل ينفع أن آتي أنا إليكم؟».

قنينة الماء الأخيرة
«لسنا بخير، منذ بدء العملية العسكرية لم يغمض لنا جفن بسبب القصف الذي لا يهدأ». قرأ غازي، من مخيم عين الحلوة، الرسالة التي وصلته من ابن عمه «أبو أحمد» الذي يسكن في الحيّ السعودي قرب معبر رفح. «عائلتي كلها هناك»، يقول. نصحهم بالمغادرة إلى مكان آمن، فردّ عليه ابن عمه: «لوين منروح، غزة كلّها تحت النار. الغارات تستهدف أحياء لم تُقصف في أي حرب سابقة». يغفو غازي قليلاً أمام شاشة التلفزيون، قبل أن يستفيق مجدداً لمتابعة الأخبار. «أنا هنا مكبّل اليدين، وهم يخنقهم الظلام ويقتصدون في شرب الماء حتى تكفيهم قنينة الماء الأخيرة لأطول فترة ممكنة».

«سامحونا»
تدمع عينا مصطفى وهو يقرأ الرسائل القليلة التي تصله من غزة. «لا أعرف كيف أردّ على كل هذا الأسى. أحاول طمأنتهم ورفع معنوياتهم من خلال التركيز على بطولات المقاومة، على أمل أن يصمدوا حتى تحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر». وحده والده لجأ الى مخيم عين الحلوة بعد نكسة 1967، فيما بقيت بقية العائلة هناك في جباليا، شمال غزة. بعدما وصله خبر استشهاد جيران أعمامه، آل المدهون الذين «استشهد 15 فرداً منهم بضربة واحدة تحت أنقاض منزلهم»، باتت معظم الرسائل التي تصله من كلمة واحدة: «سامحونا». كل رسالة «أحسّ بها رصاصة في قلبي وأنا أشعر بأنهم يودعوننا».