لا حديث الآن سوى عن الغزو البري الإسرائيلي المحتمل لقطاع غزة بمحافظاته المختلفة، وخاصة بعدما أخلت إسرائيل أو كادت مستوطنات ما يعرف بغلاف غزة من الصهاينة المستوردين من شتى بقاع الأرض لاحتلال الأرض الفلسطينية. حديث يدور حول سؤال واحد، تتعدد إجاباته وتتنوع، وتختلف وتتناقض باختلاف المواقع والانتماءات السياسية لأصحاب الإجابات: هل تقتحم إسرائيل غزة برًا؟ في رأيي، هذا سؤال غير مكتمل. صحيح أنه سؤال مهم، لكنه مقتطع من سياق تساؤلي أكثر أهمية. السؤال الذي يجب أن يكون مطروحًا للنقاش الآن هو: «هل تستطيع إسرائيل الانتصار في هذه الحرب التي فُرضت عليها زمنيًا ومكانيًا؟» ‏أخلاقيًا وأيديولوجيًا، ليس هناك ما يمنع إسرائيل من الإقدام على أي فعل ترى أنه سوف يحقق لها الانتصار على «حماس»، فالصهاينة يرون أهل غزة، وربما العرب جميعًا، ومن بينهم المطبعون والمنبطحون، مجرد حيوانات لا تستحق العيش، يستوي في ذلك من ترى فيهم حيوانات متوحشة متعطشة للدماء الصهيونية البريئة النقية، ومن ترى فيهم، بثيابهم البيض النظيفة، أغنامًا وأنعامًا أليفة تتوكأ عليها أو تركبها، وتهشّ بها على غيرها من أغنام وأنعام، ولها فيها مآرب أُخرى.
من هذا المنطلق، تتنحى الاعتبارات الخلقية والقانونية لتفسح المجال للمعطيات العسكرية، العنصر الأكثر قدرة على الإجابة عن السؤال المصيري الكلي الذي ينبغي أن يتردد صداه في جميع أرجاء العالم تقريبًا، وليس في منطقتنا العربية فقط.
يعتمد الكيان الصهيوني، في بقائه، في أوقات الحروب وفي غيرها، على أربع منظومات أساسية:
- منظومة مخابراتية معلوماتية يفخر بأنها الأعلى احترافية في العالم كله.
- منظومة جوية، من الطائرات وصواريخ الدفاع الجوي، توصف بأنها الأقوى والأحدث، في المنطقة، على الأقل.
- منظومة برية، تعتمد على سلاح مدرعات، تقف في القلب منه دبابة «ميركافا» درة الصناعة العسكرية الصهيونية وفخرها.
- منظومة بشرية تتمثل في المقاتلين الصهاينة، من قوات عاملة، وقوات احتياط. وهي المنظومة التي تدير الثلاث الأولى وتتحكم فيها.
المنظومة الأولى، المخابراتية المعلوماتية: أثبتت فشلًا ذريعًا عدة مرات، بدأت بالعجز عن الاكتشاف المبكر لما فعلته مصر وسوريا في السادس من أكتوبر 1973، وانتهت بالعجز عن الاكتشاف المبكر لعملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023، وكأن الفاصل بين اليومين، السادس والسابع، كان ليلة واحدة، وليس خمسين عامًا وليلة. وبين هذين الفشلين الاستراتيجيين الهائلين، سلسلة من عمليات الفشل التكتيكي الأصغر حجمًا، وربما الأقل تأثيرًا، على مراحل الصراع العربي الصهيوني، ويكفي أن نضرب المثل ببعض العمليات المحدودة:
- الفشل في معرفة مصير ومكان الجنديين اللذين اختطفهما حزب الله عام 2006.
- الفشل في معرفة مصير ومكان أربعة جنود تحتفظ بهم «حماس» منذ سنوات طويلة.
- الفشل المتكرر في اكتشاف ومنع عدد من العمليات التي قام بها حزب الله ضد شخصيات ومصالح إسرائيلية في عدد من دول العالم، بالإضافة إلى الفشل في إثبات ضلوع حزب الله في هذه العمليات.
وقبل هذا كله وبعده، فشلٌ استراتيجي هائل ومتواصل يتمثل في عدم معرفة مصادر ما يستخدمه مقاتلو «حماس» و«الجهاد الإسلامي» من أسلحة وذخائر، حيث يستحيل منطقيًا أن تكون كل هذه الأسلحة والذخائر مصنعةً محليًا. أما إذا كانت مصنعةً محليًا بالفعل، فإن هذا يعني أن الفشل المخابراتي الصهيوني أكبر وأفدح.
المنظومة الثانية، الجوية: أثبت التاريخ العسكري فشل هذه المنظومة في حسم الحروب بشكل عام، وليس في منطقتنا فقط، وفي حالات كثيرة الفشل في حسم بعض المعارك الرئيسية والفرعية. ودون أن نسافر في الزمن بعيدًا إلى الوراء، يكفي أن نضرب عدة أمثلة معاصرة، وآنية:
- في حرب أكتوبر 1973 استطاع حائط الصواريخ المصري تحييد، وقطع، ما كان يوصف بالذراع الطويلة لإسرائيل، ليجد الجندي الصهيوني نفسه بلا غطاء جوي، في مواجهة مشاة ومدرعات الجيش المصري، رجلًا في وجه رجل، ومدرعة في مواجهة مدرعة.
- في حرب تموز 2006، دك سلاح الجو الصهيوني الجنوب اللبناني، ودمر الضاحية الجنوبية لبيروت، غير أن ذلك لم يمنع حزب الله من حسم الحرب لمصلحته بعد ثلاثة وثلاثين يومًا من القتال، بعدما فشل العدو الصهيوني في تحقيق هدفه من تلك الحرب، وهو تحرير الجنديين المخطوفين.
- في الحروب الصهيونية المتتالية على غزة، لم ينجح القصف الجوي المتواصل في تحقيق الهدف من الحرب وهو القضاء على «حماس»، ولم يتمكن من كسر إرادتها، ولا إضعافها عسكريًا، حيث كانت «حماس» بشكل عام، و«كتائب القسام» بشكل خاص، تثبت في كل جولة من جولات الحرب عليها، أنها أكثر قوة وقدرة، من الجولة التي سبقتها.
- في الحرب التي تدور رحاها بين روسيا وأوكرانيا منذ أكثر من عام، فشل سلاح الجو الروسي بكل طاقاته وإمكاناته، من قاذفات ومقاتلات، في حسم الحرب لمصلحة روسيا، كما فشلت الطائرات والدفاعات الجوية الأوكرانية في الدفاع عن أطراف أوكرانيا وعمقها، رغم الإمدادات الصاروخية السخية من «الناتو».
- في الحرب الدائرة حاليًا بين الكيان الصهيوني وحركة «حماس»، تواصل «كتائب القسام» إطلاق صواريخها من جميع أنحاء غزة، ونحن نشاهد، على الهواء مباشرة، بعض الرشقات الصاروخية، وهي تنطلق من موقع يقع على بعد أمتار قليلة، من موقع سبق أن شاهدنا، على الهواء مباشرة، الطائرات الصهيونية وهي تقذفه، قبل دقائق قليلة من انطلاق صواريخ «القسام».
- أمّا عن الدفاعات الجوية الصهيونية، فحدِّث ولا حرج. في بداية عملية «طوفان الأقصى»، فشلت تلك الدفاعات في اكتشاف طائرات «حماس» المصنعة يدويًا، فضلاً عن تدميرها. ومع استمرار الحرب، أثبتت القبة الحديدية أنها لم تعد حديدية ولا من يحزنون، ويكفي أن نراجع ارتفاع نسبة ما يصل من صواريخ «حماس» إلى أهدافه، في عمق غلاف غزة وخارج هذا الغلاف، فضلًا عن التكلفة الباهظة لتلك المنظومة، حيث تصل تكلفة التصدي لكل رشقة تتكون من مئة صاروخ، إلى عشرة ملايين دولار. صحيح أنها مسألة هامشية، في ظل وجود «حليف أهبل» سوف يتحمّل الفاتورة كلها، لكن الأرقام تبقى ذات دلالة مهمة.
المنظومة الثالثة، البرية: رغم أن البعض يرى أن هذه المنظومة سوف تؤدي دورًا حاسمًا، فإن استخدامها محفوف بالمخاطر والمهالك الكثيرة، ولنا في التاريخ القريب أمثلة كاشفة، وعِبَر لا يمكن تجاهلها:
- في حرب أكتوبر 1973، استطاع جندي المشاة المصري التصدي للمدرعات الإسرائيلية نصف يوم تقريبًا، واستطاع إيقاف تقدم هذه المدرعات نحو شاطئ القناة وتدميرها، حتى انتهت عملية فتح الثغرات في الساتر الترابي، واكتملت عملية تركيب رؤوس الجسور على الشاطئ الشرقي للقناة، ومن ثم عبور المدرعات والأسلحة الثقيلة المصرية.
- في حرب تموز 2006، فشلت القوة المدرعة الصهيونية في احتلال قرية واحدة في الجنوب اللبناني، رغم أنها كانت تواجه مقاتلين راجلين، أو مقاتلين يركبون مركبات خفيفة.
اليوم، يحاصر الجيش الصهيوني غزة بعدد كبير من المدرعات، الأمر الذي حوَّل انتباه الكثيرين عن السؤال الحقيقي، وهو: هل تستطيع إسرائيل الانتصار على «حماس»، إلى سؤال فرعي هو: هل سوف تجتاح إسرائيل غزة براً؟
الدبابات التي نشاهد عملية حشدها وترتيبها في غلاف غزة، كما تنقل إلينا وسائل الإعلام، وفي مقدمها قناة «الجزيرة»، تنقسم إلى نوعين رئيسيين:
- دبابات خفيفة، وتتكون من عدة طرز مختلفة من دبابات بريطانية وأميركية، بالإضافة إلى عدد قليل من الدبابات الروسية التي غنمتها إسرائيل أثناء حرب يونيو عام 1967 وقامت بتطويرها. هذه الدبابات تستطيع نظريًا دخول غزة، بسب صغر حجمها، وخفتها، وسرعة حركتها، لكنها من الناحية العملية، ولنفس الأسباب التي يعدّها البعض من مزايا هذه الدبابات، لن تستطيع الصمود كثيرًا أمام مضادات الدبابات المحمولة على الكتف، ولا الصواريخ الخفيفة الموجهة بالليزر، وخاصة في حالات القتال المتلاحم، وهو ما سوف يكون الوضع عليه في حالة اقتحام غزة براً.
- الدبابات الثقيلة، وتتكون في الأساس من الـ«ميركافا» بطرزها المختلفة، وأحدثها الطراز المعروف باسم «ميركافا مارك 4». هذه الدبابة كبيرة الحجم جدًا، ويبلغ طولها 7.6 أمتار، بينما يتجاوز عرضها 3.7 أمتار. ويصل وزنها إلى 64 طنًا، ويتولى تشغيلها طاقم من 4 أفراد. هذه الدبابة استخدمت في معظم الحروب التي خاضتها إسرائيل بعد حرب أكتوبر 1973، وقد بدأ إنتاجها عام 1979. ورغم شهرتها العالمية، أثبتت فشلها، أو على الأقل لم تحرز نجاحًا كبيرًا في حرب تموز 2006، ومن ثم لا ينتظر أن تحقق قدرًا حقيقيًا من النجاح في قطاع غزة. إن هذه الدبابة التي تصل سرعتها إلى 60 كيلومترًا في الساعة، يمكن أن تحقق نجاحًا كبيرًا في الأراضي المستوية، في معارك الصحراء مثلًا، لكنها لا يمكن أن تكون سلاحًا فعّالًا في قتال يدور في بيئة حضرية مزدحمة، وهو ما يمثله قطاع غزة، مهما بلغت ضراوة الضربات الجوية التمهيدية، ومهما بلغ حجم ما تمحوه تلك الضربات من مبان. صحيح أن الضربات الجوية سوف توسع شوارع غزة الضيقة، لكنها في الوقت نفسه، سوف تحوّل تلك الشوارع إلى تلال من ركام يختلط فيه الصخر بالفولاذ! باختصار، الضربات الجوية تغيّر طبيعة العوائق التي تعترض سبيل الـ«ميركافا»، لكنها لا تزيل تلك العوائق.
العنصر الرابع، البشري: وهنا، كما يقولون بيت القصيد. فالعنصر البشري لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون عامل ترجيح للجيش الإسرائيلي في مواجهة مع «كتائب القسام»، ولا يمكن أن يكون عاملًا من عوامل انتصارِ ما لإسرائيل على «حماس». وأنا أستطيع أن أذهب، بكل ثقة، إلى ما هو أبعد من ذلك فأقول إن هذا العنصر يشكل، استراتيجيًا وتكتيكيًا، واحدًا من أهم عناصر قوة «حماس»، وضعف إسرائيل، والأدلة على صحة ما أقول كثيرة، وتمتد بامتداد عمر الصراع العربي الصهيوني، تاريخًا، وحاضرًا، ومستقبلًا:
أولًا: الاختلاف الهائل في العقيدة العسكرية بين المقاتل الفلسطيني والمقاتل الإسرائيلي. المقاتل الفلسطيني يطلب واحدًا من اثنين، يرى في كلٍِ خيرًا وبركة، النصر أو الشهادة. بينما يرى المقاتل الإسرائيلي أن البقاء على قيد الحياة مقدّم على كل ما عداه، بما في ذلك النصر، وهو أمر لا يرجع إلى احترام الحياة البشرية أو قدسيتها، كما يدّعي البعض ممن يتفاخرون جهلًا وخنوعًا بأنهم أنصار حياة لا دعاة موت، لكنه يرجع إلى إحساس اليهود، عامة، بالقلة العددية في مواجهة أعدائهم، والإيمان بأن تعويض العنصر البشري أمر بالغ الصعوبة. إن حالات الهروب الجماعي من الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الإسرائيلي التي تزايدت في الفترة الأخيرة، التي يطلق عليها الإعلام العسكري الصهيوني مصطلح «اعتذارات»، لا تنبع من ضمير إنساني يرفض الحرب على الأبرياء، ويعترض على قتلهم وانتزاع أرضهم، لكنه يصدر عن عقل يفتقر إلى عقيدة قتالية حقيقية، وغريزة تفضل البقاء حيًا في أرض يعتبرها غريبة، على الموت في أرض مقدسة، يحاولون إقناعه بأنها أرضه هو، فأنَّى لمثل هذا المقاتل أن يدرك عبقرية مقولة الإمام علي الشهيرة: «احرص على الموت، توهب لك الحياة»!
ثانيًا: ربما بسبب ما ورد في أولًا، أثبتت الحروب السابقة كلها أن الإسرائيلي لا يجيد القتال إلا من خلف الأسوار، أو من وراء المعدات، أو من داخلها، وأنه لا يقوى على المواجهة المباشرة، فيهرب أو يستسلم، إذا لم يُقتَل. حتى المستوطن الصهيوني المسلح، لا يجرؤ على إطلاق النار على مواطن فلسطيني أعزل، إلا إذا كان على مقربة شديدة من تجمع لجنود الجيش الصهيوني، فهو يرى في ذلك التجمع، حصنًا يقاتل من داخله، حتى لو كان عدوه فردًا واحدًا أعزل.
ثالثًا: المقاتل الفلسطيني، الذي يجيد المواجهة المباشرة ويتمناها، يملك سلاحًا آخر، يمكن أن يكون حاسمًا ماحقًا في مواجهة المقاتل الصهيوني، وهنا أقصد سلاح الأنفاق. من المؤكد أن «حماس» استنسخت بذكاء شديد تجربة حزب الله في لبنان، الذي استنسخ التجربة الفييتنامية الرائعة في حفر واستخدام شبكات الأنفاق، وطورها. إن حزب الله يعتمد في بقائه، وتخزين سلاحه، وحركته عبر الأراضي اللبنانية كلها، وليس في الجنوب فقط، على شبكة معقدة من الأنفاق المتطورة، التي يصعب التوصل إليها، فضلًا عن تدميرها. لقد استطاعت «حماس»، عبر شكل من أشكال التواصل والتعاون مع خبراء حزب الله، امتلاك شبكة هائلة من الأنفاق التي تمتد بطول غزة وعرضها، حتى إن بعض هذه الأنفاق يصل إلى داخل الأراضي الفلسطينية التي احتُلت عام 1948، وتلك التي احتُلت عام 1967.
إنّ «حماس» تستطيع الحركة والمناورة داخل هذه الشبكة، مستخدِمةً مركبات وأسلحة ثقيلة، تمكنها من مهاجمة مؤخرة أيّ قوة برية تقتحم القطاع. إنني أشعر في كثير من الأحيان بأن مقاتلي «كتائب القسام» يتمنّون أن تُقدِم إسرائيل على هذا الاقتحام، الذي أعدّوا العدة لاستقباله منذ سنوات طويلة. في الوقت نفسه، أنا واثق بأن إسرائيل تعرف هذه الحقائق، وتعرف الثمن الباهظ الذي سوف تتكبده، إذا ما توغلت قواتها داخل غزة، فهل يمكن أن تصل درجة الإحساس بمهانة ما حدث يوم السابع من أكتوبر، إلى حد قبول خسارة أكبر، تحت شعار الانتقام من «حماس»، أو حتى تدمير «حماس»؟
وهنا نصل إلى أمر آخر بالغ الأهمية، يجعل من العنصر البشري عامل ضعف لإسرائيل بدلًا من أن يكون عامل قوة، أقصد طبيعة أو بنية أو تركيبة المجتمع الصهيوني، فإسرائيل مجتمع إسبرطي، بمعنى أنه مجتمع مقاتل، أو مجتمع من المقاتلين. في جميع مراحل التاريخ البشري كانت الدول تنشأ على مدار فترات طويلة، وعبر مراحل متعددة، آخرها تكوين جيش لحماية الدولة، وتحقيق أهدافها، دفاعية كانت أو توسعية. في حالة الكيان الصهيوني، حدث العكس تمامًا. تجمعت عصابات الهاغاناه وشتيرن وأرغون وبيتار وغيرها لتصنع جيشًا، ثم أنشأ هذا الجيشُ، أو أنشأ العالمُ له، دولة تحمل اسم إسرائيل. إن كل مواطن في هذا الكيان المصطنع هو جندي في الجيش الذي صنع هذا الكيان، يستوي في ذلك أن يكون جنديًا عاملًا، أو جنديًا احتياطيًا. لا يوجد في إسرائيل مدنيون، هناك جنود مجندون بالفعل، هم الرجال والنساء، وجنود ينتظرون دورهم في التجنيد وهم الأطفال، لكن هذه قصة أخرى وقضية قانونية معقدة، لا مجال لمناقشتها في هذا المقال. المهم، أن الجيش الذي سوف تحتاج إليه حكومة إسرائيل إذا قررت غزو غزة براً، يمثل أكثر من 10 في المئة من إجمالي عدد سكانها، بمن فيهم الأطفال، أي أنه يتكوّن في معظمه ممن يسيِّرون المرافق الحكومية، ومن يدرِّسون في المدارس والجامعات، ومن يعملون في المصانع والمزارع، ومن يقودون وسائل النقل العامة، ومن يهتمون بمرافق المياه والكهرباء والصرف الصحي وما شابه ذلك. فهل تستطيع البنية الهشة لذلك المجتمع الإسبرطي تحمّل تبعات غياب هؤلاء عن أعمالهم الأصلية لفترة قد تمتد لأسابيع طويلة؟ وإن استطاعت أن تتحمل هذه التبعات باعتبارها مؤقتة إلى حدٍ ما، هل تستطيع تحمل تبعات الغياب الدائم للمئات وربما الآلاف من هؤلاء الذين سوف يسقطون قتلى في شوارع غزة وأزقتها؟ ومتى وكيف ومن أين تستطيع تعويض هؤلاء القتلى، مع تزايد معدلات الهجرة المعاكسة، حيث يغادر المئات إسرائيل، بلا عودة.
إن اجتياح غزة، والتوغل داخل أراضيها، والوقوع في شراك أنفاقها، يمكن أن يصيب مرافق إسرائيل الداخلية بشلل تام، ويمكن أن يحوّل إسرائيل إلى أوكرانيا أخرى، رغم الفارق الهائل بين الحالتين، فأوكرانيا تحوّلت إلى دولة مشلولة لأنها تتعرض لهجوم رهيب، وإسرائيل يمكن أن تتحول إلى كيان مشلول، لأنها تشن هجومًا مجنونًا.
في النهاية، وفي طريق البحث عن إجابة عن السؤال الجوهري، هل يمكن أن تنتصر إسرائيل على غزة؟ يجب أن نطرح عددًا من الأسئلة المهمة، والأهم أن نبحث عن إجابات لهذه الأسئلة:
- هل يمكن أن تتدخل الولايات المتحدة فعليًا، من الجو أو على الأرض، لنصرة إسرائيل في حربها على غزة؟
- هل يمكن أن تترك روسيا والصين تدخلًا كهذا، وكأن الأمر لا يعنيهما؟
- هل سوف تواصل أوروبا النظر إلى ما يجري في غزة من منظار إسرائيلي أعور؟
- هل يمكن لدول محورية كبيرة مثل مصر وتركيا وإيران أن تقف على الحياد أمام هذه الحرب؟ هل تستطيع الصمود أمام ما سوف يتفجر داخلها من سخط شعبي، خوفًا مما يمارس عليها من ضغوط غربية، وأحيانًا عربية؟
- هل يمكن للمطبِّعين سرًا أو علانية، المنبطحين، والحالمين بجنة التطبيع، أن يواصلوا الانبطاح، ودفن رؤوسهم في الرمال، متوهمين أن أقدام الناس لن تدوسهم مهما حدث في غزة؟
- هل سوف يسمح شباب منظمة التحرير، وأهل الضفة الغربية، لمحمود عباس بأن يقوم بدور الشرطي الإسرائيلي إلى الأبد؟
- هل سوف يسمح عرب فلسطين 1948 بأن يؤكل الثور الأبيض وهم ينتظرون دورهم؟
- أخيرًا، وليس بآخر، إن المنطقة مليئة بالتنظيمات المسلحة، فهل يمكن أن تقف تلك التنظيمات موقف المتفرج؟ إن بعض هذه التنظيمات، وفي المقدمة منها حزب الله، يملك إمكانات عسكرية تفوق إمكانات بعض دول المنطقة، فضلًا عن عقيدة قتالية، تستند إلى ثوابت شرعية، تؤمن بفلسطين واحدة، من النهر إلى البحر.
أسئلة كثيرة، تنبع من سؤال جوهري واحد، تتكاتف، لتجبر كل من يملك عقلًا سليمًا، ورؤية تتجاوز الجزئيات، على أن ينفض عن باله ذلك السؤال القاصر:
«هل سوف تقتحم إسرائيل غزة؟»
السؤال يا سادة هو:
«هل تستطيع إسرائيل الانتصار على غزة؟» .

* كاتب مصري