يوم ثانٍ من التظاهرات العارمة والغاضبة سُجّل في أنحاء العالم العربي، أمس، بعد التظاهرات الليلية التي أعقبت مذبحة مستشفى «المعمداني» في غزة. وطالب المشاركون في تلك التظاهرات، الدول التي تقيم علاقات مع العدو، بقطعها، والسماح بفتح الحدود لمن يريد القتال ضدّ إسرائيل، ما أجبر المستوى الرسمي العربي، الذي يراوح أداؤه بين العجز والتواطؤ، على رفع مستوى الاعتراض في وجه الاحتلال وحلفائه الأميركيين.في تونس، لم ينم المواطنون ليل الثلاثاء - الأربعاء بعد المجزرة، إذ وحده الصراخ في الميادين كان تعويضاً للشعور بالعجز ومهدّئاً للقلوب التي بلغت الحناجر وكادت تتوقّف قهراً. وهذه المرّة، كانت الهتافات والاحتجاجات، موجّهة إلى رعاة الجريمة ومبرّريها في الولايات المتحدة وكندا وفرنسا. وأمام سفارة الولايات المتحدة في الضاحية الشمالية للعاصمة، احتشد عشرات النشطاء رافعين شعارات تصف القيادة الأميركية بالصهيونية، وراعية سفك الدماء الفلسطينية، ولافتات كُتب عليها بالإنكليزية أن التونسيين لن ينسوا أن الرجل الأبيض استحلّ دماء الفلسطينيين وجرّدهم من إنسانيتهم لفائدة المحتل. وطالب المتظاهرون الذين خرجوا بدعوة من «تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين»، بطرد السفير الأميركي، داعين إلى وقف العدوان على غزة وإجراء تحقيق مستقلّ في كلّ جرائم الحرب المرتكَبة في القطاع. أمّا أنصار الرئيس، قيس سعيد، فقد تجمّعوا بدورهم أمام السفارة الأميركية للغرض نفسه. وخلافاً للمشهد أمام السفارتَين الأميركية والكندية، كانت الحشود أمام سفارة فرنسا وقنصلياتها في البلاد بالآلاف، وندّد المشاركون فيها بالانحياز التونسي إلى آلة القتل الإسرائيلية، لتتالى إثر ذلك الاحتجاجات في المواقع نفسها.
وكان خرج التونسيون بشكل تلقائي ومن دون تنظيم مسبق، بمجرّد ورود خبر استهداف الاحتلال مستشفى «المعمداني»، وتجمّعوا بالآلاف لا في العاصمة فقط وإنما في جميع محافظات البلاد، لتؤكد تحرّكاتهم أن كلّ «الكليشيهات» الرائجة عن موت القضية في وجدان الأجيال الجديدة، مجرّد أقاويل خاوية. فهذه الأجيال التي خرجت إلى الشوارع للتظاهر أو ركّزت على منصّات التواصل الاجتماعي لشرح الحدث لرواد هذه المنصّات الغربيين، أثبتت إلى أيّ مدى لا تزال القضية حاضرة لديها، أقلّه بالتعبير عن الغضب. أمّا المؤسسات العاملة في الحقل الحقوقي، فاعتبرت أن الوقت قد حان لفرز المنظّمات الحقوقية الغربية التي تنشط في تونس، ونبذ من اصطفّ منها وراء آلة القتل الصهيونية أو التزم الصمت. وفي هذا الإطار، أبدت «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» استهجانها صمت شركائها الأوروبيين أمام المجازر الإسرائيلية، وخاصة مذبحة مستشفى «المعمداني»، معلنةً أنها لم تعُد تقبل التعامل مع منظمات تكيل حقوق الإنسان حسب العرق واللون والمصلحة السياسية. وتبنّى «الاتحاد العام للشغل»، بدوره، الموقف ذاته، معلناً عزمه الانسحاب من «الاتحاد الدولي للنقابات»، وداعياً «اتحادات العمال العربية» إلى أن تحذو حذوه. ويأتي ذلك بالتوازي مع عمل حثيث لـ»الهلال الأحمر» في تجميع المسلتزمات الطبية والدوائية لفائدة غزة. ويعوّل القائمون على عمليات التجميع على إنهاء عمليات تعبئة الإمدادات خلال الأربع والعشرين ساعة المقبلة، وإرسالها مباشرة إلى مطار العريش في مصر لتكون جاهزة للدخول إلى غزة متى فُتح معبر رفح الحدودي، تخوّفاً من فتحه لسويعات فقط.
وفي المغرب، خرجت تظاهرات في مدن عدّة، وخصوصاً في الرباط التي شهدت وقفة احتجاجية أمام مقرّ البرلمان، حيث رفع المحتجّون الأعلام الفلسطينية ولافتات كُتب عليها «المغرب ينصر القدس ويرفض التطبيع». وحمّل «حزب العدالة والتنمية»، بدوره، الولايات المتحدة والدول الغربية، مسؤولية ما يحصل من مجازر بحق الفلسطينيين في غزة. ودعا الدول العربية والإسلامية إلى وقف كلّ أشكال التطبيع مع كيان الاحتلال، مطالباً بإغلاق ما يُسمّى «مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط». كذلك، شهدت صنعاء وعدد من المحافظات اليمنية مسيرات غضب عارمة شارك فيها عشرات الآلاف من اليمنيين، وقيادات عليا من «المجلس السياسي الأعلى»، ومختلف القوى السياسية. وفي مسيرة العاصمة التي نُظّمت في ساحة شارع المطار، دعا عضو المجلس، محمد علي الحوثي، الدول العربية إلى دعم حركة «حماس» بالمال والسلاح، وفتح الحدود للشعوب الحرّة لمواجهة الكيان الصهيوني. واعتبر أن «دماء شهداء غزة سوف تقود ثورة عربية قومية تطيح بأدوات أميركا وإسرائيل في المنطقة»، مطالباً دول الخليج النفطية بتخفيض إنتاج النفط بشكل تدريجي احتجاجاً على الجريمة وتضامناً مع الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى طرد سفراء العدو من الدول العربية والإقليمية التي لها علاقات معه. كما حضّ المشاركون في المسيرة، الشعوب العربية، على التحرّك الجادّ لمنع أيّ نشاطات عسكرية انطلاقاً من القواعد الأجنبية في المنطقة لدعم الكيان الإسرائيلي. أيضاً، شهدت محافظات ذمار وإب وتعز والحديدة وعمران وصعدة تظاهرات مماثلة.
وفي دمشق التي أعلنت ثلاثة أيام حداد، جاب نحو 300 شخص شوارع العاصمة رافعين الأعلام السورية والفلسطينية، فيما ارتدى كثر الكوفية الفلسطينية وحملوا لافتات كُتب عليها «فلسطين عربية». وفي الخرطوم التي تتواصل فيها الحرب، ما يحول دون تنظيم تظاهرات، تتواصل المواقف المندّدة بما يجري في غزة. وفي هذا الإطار، قال رئيس منظمة «سودانيون ضد التطبيع مع إسرائيل»، المظفر الدقيل، إن «الحرب الإسرائيلية على القطاع تمثّل استمراراً للجرائم الإسرائيلية والأسلوب البربري الإجرامي المتواصل منذ عام 1948 بدعم دولي وخذلان كبير من الدول العربية». ولفت الدقيل، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «الحرب تؤكّد صواب رؤيتنا الثابتة بالرفض التامّ للتطبيع مع إسرائيل لأن الأخيرة ظلّت مستمرّة ومن دون أيّ وازع أخلاقي أو ديني في مجازرها وانتهاكاتها لأنها دولة تؤمن بالحرب والقتل». وجدّد دعوة الحكومة السودانية «إلى التراجع عن خطواتها السابقة نحو التطبيع مع إسرائيل». وكانت استنكرت وزارة الخارجية السودانية، في بيان، قصف «إسرائيل المناطق المأهولة بالسكان في غزة، واستخدام سلاح الحصار والتجويع والإعاقة المتعمّدة لإيصال المساعدات الإنسانية، لإجبار المواطنين على الخروج وإجلائهم من منازلهم». ووصفت مجزرة «المعمداني» بأنها «مجزرة مكتملة ضدّ الإنسانية، وتمّت نتيجة لصمت وتواطؤ الأطراف الدولية الغربية في هذه الحرب الشاملة».
الحشد أمام سفارة فرنسا وقنصلياتها في تونس كان بالآلاف


وفي طهران، تظاهر الآلاف بدعوة من السلطات في وسط العاصمة تضامناً مع الفلسطينيين. ورفع المتظاهرون أعلاماً إيرانية وفلسطينية وراية «حماس». وألقى الرئيس، إبراهيم رئيسي، فيهم كلمة قال فيها إن «القنابل التي تتساقط على سكان غزة أميركية... العالم يعتبر الولايات المتحدة متواطئة في جرائم النظام الصهيوني». وعدا تظاهرات الاحتجاج، تواصَل تسجيل الإنذارات الأمنية حول العالم بسبب ما يحدث في فلسطين. وتحدّثت تقارير عن إخلاء السفارتين الأميركية والإسرائيلية في بوينس آيرس نتيجة إنذارات بوجود قنابل فيهما، لكنّ السفارة الأميركية قالت، في بيان بعد ذلك، إنها تعمل بشكل طبيعي ولكنّ هناك انتشاراً إضافياً للشرطة أمامها. أيضاً، أُخليت ستة مطارات في فرنسا للسبب نفسه، فيما تعاملت الشرطة الفرنسية مع إنذار بوجود قنبلة في قصر فرساي في باريس للمرة الثالثة.



الأردنيون لا يتعبون: غضب متعاظم بوجه التطبيع
في الوقت الذي دان فيه الملك الأردني، عبد الله الثاني، مجزرة «المستشفى المعمداني» في غزة، عادّاً إياها «جريمة حرب نكراء لا يمكن السكوت عنها»، معلناً الحداد لثلاثة أيّام، انتفضت الحشود الشعبيّة إسناداً لفلسطين، ورفضاً للمجازر التي يرتكبها العدو بحق أبناء القطاع. وتزامن ذلك مع دعوات إلى الإضراب العام، والتوجّه نحو سفارتَي الاحتلال والولايات المتحدة في عمّان للتظاهر هناك، وهو ما تبنّاه «الملتقى الوطني لدعم المقاومة وحماية الوطن»، والذي يضمّ أحزاباً ومؤسسات أهلية.
وكانت ساحة مسجد الكالوتي، الواقعة في محيط السفارة الإسرائيلية في منطقة الرابية غربي عمّان، أحد المواقع التي شهدت حشداً شعبياً كبيراً، أكد في خلاله المتظاهرون دعمهم المقاومة الفلسطينية. ومع اشتداد زخم التظاهرة، حاول المحتجّون اقتحام مقرّ السفارة، لكن قوات الأمن شكّلت حواجز أمام جميع الطرق المؤدية إليه، مانعةً إياهم من تخطّيها.
وتجدّدت التظاهرات يوم أمس أيضاً، حيث طالب المشاركون فيها، الحكومة، باتخاذ موقف حازم تجاه الاحتلال، يتعدّى طرد السفير، إلى إلغاء «اتفاقية وادي عربة»، بالإضافة إلى إلغاء اتفاقيات الغاز والماء مقابل الكهرباء. وكُتب على إحدى اللافتات بالإنكليزية «نهاية إسرائيل هي المفتاح بالنسبة إلينا لنكون أحراراً». وهتف المتظاهرون الذين حملوا الأعلام الفلسطينية: «يلّا نحكي عالمكشوف سفارة ما بدنا نشوف»، و«لا سفارة صهيونية على الأرض الأردنية»، رافعين لافتات كتب عليها «ثورة حتى النصر» و«التطبيع خيانة». كذلك، طالب المتظاهرون بطرد السفير الأميركي وإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة، مندّدين بمشاركة الأخيرة في العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
كما شارك مئات المحامين في مسيرة انطلقت مساء أمس من قصر العدل في العاصمة عمّان، وصولاً إلى مجمع النقابات المهنية في منطقة الشميساني، حيث انضمّ إليهم عشرات النقابيين. وطالب المشاركون في الوقفة بـ«إلغاء اتفاقية وادي عربة وكل الاتفاقات مع العدو الصهيوني، وبإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة».