بالكاد كان الرئيس الأميركي، جو بايدن، في إسرائيل يستطيع جرّ رجلَيه. لكن هذا الحضور الجسدي المباشر إلى جبهة مشتعلة كان له ما يسوّغه. ففي الرهان قضيّتان أساسيتان: واحدة تخصّ أميركا ومصالحها في المنطقة والعالم، والثانية ترتبط بالرئيس وحزبه الديموقراطي في بداية حملة انتخابية رئاسية وتشريعية في الولايات المتحدة. من النتائج المباشرة للزيارة، كما قد يلمس أيّ متابع، إبطاء الهجوم البرّي الذي لا تبدو، لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة، جاهزتَين لتحمّل خسائره المادّية والمعنوية. كانت مهمّة بايدن في هذا الجانب التصويب، لأن الأصل هو أميركا ومصالحها. وإسرائيل، وإن كانت الطفل المدلّل لها، إلا أنّ لها وظيفة، وبالتالي ممنوع عليها تخريب المصالح الأميركية في هذه المنطقة أو الإضرار بها، وممنوع عليها حتى الإخلال بوظيفتها هي نفسها في سياق الحفاظ على تلك المصالح.كان من شأن الهجوم البرّي، وفقاً للمفهوم الإسرائيلي، أي مفهوم صقور اليمين ممّن هم في الحكم الآن، أن يُسيء إلى المصالح الأميركية، ووظيفة إسرائيل فيها. فماذا لو بعد عملية «طوفان الأقصى»، بكلّ الشرخ الذي أحدثته في الوعي الجمعي الإسرائيلي، تمرَّغ أنف الجيش الإسرائيلي بالتراب في أنفاق غزة، وصار مهزلة أمام العالم؟ وماذا بالتبعية لو أدّى استبسال وانتصار آخران لـ«حماس» في القتال داخل أحياء غزة ومخيماتها، إلى تحوّل عربي جماعي نحو خيار المقاومة؟ لم يكن من حلّ أمام الأميركيين، في هذه الظروف، سوى إعادة إسرائيل إلى «طريق الصواب»، أي طريق ارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين. فبالإمكانات المتوافرة لدى العدو وداعميه، لا يوجد خيار آخر، لإعادة الشعور بالعجز والهزيمة إلى العرب، إلّا هذا. ولذا، لم يأبه بايدن لا لعدد الضحايا، ولا لنوعيتهم، أي لكون غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء والشيوخ، ولا لكون المستهدَف هو مستشفى. كان كلّ ما يشغله هو توفير تغطية كاملة للمجزرة، إلى حدّ اتهام قتلاها بها.
المهمّ محو الإنجاز الذي تحقّق بعملية «طوفان الأقصى» من الوعي الجمعي للإسرائيليين. فالغرب هو من أنشأ إسرائيل، وهو من يعرف ماذا تأكل وماذا تشرب، وأنها ما كانت لتصمد لولا المجازر والتهجير، وأنها في كلّ مرة تكون مهدّدة فيها في وجودها، كما الآن، تحتاج إلى مجازر وتهجير لإعادة تثبيت ذلك الوجود. ورئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، الذي تبادلت بلاده الأدوار مع أميركا في التاريخ الذي شهد إقامة الكيان، كان موجوداً في إسرائيل أمس للمصادقة على الخيار المذكور. أمّا المهمّة المقبلة الأخرى لبايدن والغرب، فهي ترميم الأنظمة العربية الحليفة لاستئناف وظيفتها في خدمة أميركا وإسرائيل، بعدما «أكلت» هي أيضاً ضربة بالتبعية، بانكشاف دورها الحقيقي لمن لم يزل مخدوعاً بها غداة عملية «طوفان الأقصى». في حمأة المعركة، لا يعود ممكناً لمحمد بن سلمان الحديث عن منجزات عمرانية، ويُركن تركي آل الشيخ وكلّ مشاريعه الفنية والرياضية جانباً، وتسقط مقولة «السعودية العظمى». كيف تكون عظمى ولا تستطيع إيصال عبوة ماء واحدة إلى غزة المحاصرة؟ والشيء نفسه ينطبق على الإمارات ومصر والأردن وكلّ الدول المنضوية ضمن التحالف الأميركي.
المهمّة المقبلة لبايدن والغرب هي ترميم الأنظمة العربية الحليفة لاستئناف وظيفتها في خدمة أميركا وإسرائيل


ثمّة «إنجاز» إضافي للزيارة يخصّ بايدن المرشح للانتخابات الرئاسية وحزبه الديموقراطي. ما كان يمكن لشيء آخر غير الظهور بصورة «منقذ إسرائيل» أن ينقذ ترشيح الرجل الذي كان منافسه، السابق، والمقبل على الغالب، يصفه بـ«النعسان» قبل أربع سنوات، وذلك بمعزل عن فرص الأول بالفوز، بعد عام وشهر من الآن تمثّل دهراً بالنسبة إلى عجوز في نهايات العمر مثله. وإن لم يفلح هذا في إبقائه في الرئاسة، فلْيساعد على الأقل في فوز الحزب الديموقراطي في انتخابات مجلسَي الكونغرس وحكام الولايات ورؤساء بلديات المدن، المرافقة للانتخابات الرئاسية. ومن هنا، يُصبح ما يحدث في غزة، فرصة قد لا تتكرّر بالنسبة إلى الرئيس وحزبه، وإلّا لما كان سارع إلى تلبية دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الممقوت بالنسبة إليه، ولا كان قبِل بالجلوس بين صقور اليمين الإسرائيلي في الحكومة المصغّرة، الذين كان قبل أيام قليلة من الحرب، يدعو إلى طردهم من الحكومة لما يمثّلونه من ضرر على المصالح الأميركية وعلى الحزب الديموقراطي في الداخل الأميركي، كونهم في النتيجة حلفاء طبيعيين لخصومه الجمهوريين.
ولذا، يجب إبقاء العين على المبلغ الذي جمعته حملة بايدن الانتخابية حتى الآن، ففي أميركا، الماكينة الانتخابية حاسمة في الفوز، والمبلغ الذي تجمعه الحملة يُعدّ من بين المؤشّرات المهمّة، علماً أن كبار المتبرّعين هم في غالبيتهم من المتموّلين اليهود. والطريق إلى الخامس من تشرين الثاني 2024، يوم الانتخابات، ما زال طويلاً ويحتاج إلى كثير من المال، ويمرّ بانتخابات تمهيدية للترشيح الحزبي، ولا ينتهي قبل إعلان النتائج المصادَق عليها للانتخابات الرئاسية، أو قبول الخصم بالهزيمة. والجدير ذكره، هنا، أن حملة بايدن جمعت، في الربع الثالث من العام، 71 مليون دولار، مقابل 37 مليون دولار لمنافسه المحتمل، الرئيس السابق، دونالد ترامب.
ورغم كلّ ما تَقدّم، لا يبدو النجاح مضموناً لبايدن في أيّ من المهمّتَين. ففي الأولى، ما زالت المقاومة لم تقُل كلمتها، والغالب أنها، كما أظهرت عملية «طوفان الأقصى»، وكذلك المؤازرة اليومية الفاعلة من لبنان، واستعدادات كلّ محور المقاومة للمشاركة، قادرة على منع أميركا، في أقلّ الأحوال، من تحقيق ما تريده. وفي خصوص المهمّة الثانية، ورغم التقاطع الذي أنهى القطيعة، بين اليمين الإسرائيلي وبايدن، نظراً إلى وجودهما في السلطة في كلّ من الدولتَين أثناء الحدث، إلا أنهما لن يصبحا حليفين. وإذا كان نتنياهو وحلفاؤه في الحكومة ما زالوا بعد كلّ ما حدث، يأخذون كثيراً من القرارات بخلفيات شخصية، فإنهم بالتأكيد سيحرصون على عدم تمكين الرئيس الأميركي من تحقيق المكاسب الشخصية والحزبية التي يريدها، لأنهم ينظرون إليه بوصفه خصماً تجب إزاحته والمساهمة في عودة الحزب الجمهوري إلى الرئاسة، وما زال لديهم كثير من الوقت للقيام بذلك.