ثلاثة أهداف تعمل «الغرفة الحربية المشتركة الأميركية - الصهيونية» على تحقيقها في هجومها على غزة: تدمير مقدرات المقاومة، الإطاحة بـ«حماس» من سدة الحكم، وتهجير مواطني القطاع المحاصر، فما هو موقف الرياض والدول الخليجية؟
أولاً، سباق إيراني - أميركي
فيما العرب يتفرجون على ذبح الفلسطينيين، فإن الأسئلة تتصاعد عن تموضع المحور السعودي، الذي يضم مصر والأردن والإمارات والبحرين ودولاً أخرى، من الغايات الأميركية. بل أينهم من افتراض مخاتل، بأن الحرب تتم بين الغرفتين: «المقاوِمة» و«الأميركية»، فقط، وكأن العالم ولد في السابع من تشرين الأول الجاري: لا احتلال غاشم، لا أقصى يُدنَّس، لا مستوطنات، ولا حصار يخنق الضفة والقطاع. في ظل ذلك، عقد كل من وزيري الخارجية الأميركي والإيراني اجتماعات مطولة، في بيروت والدوحة والسعودية، وأدليا بتصريحات متعدّدة، في تصادم دموي بين سرديتين. سعى أمير عبد اللهيان إلى الاطمئنان إلى مقدرات شركائه المقاومين، وتشجيع العرب على دعم فلسطين وأهلها، بدل الاكتفاء بترديد إدانات غامضة للعدوان. وركز أنتوني بلينكن، ورئيسيه جو بايدن، على مساعدة «إسرائيل» على لملمة جراحها، بعد أن فقدت ثقتها في حكومتها وجيشها ومخابراتها.

ثانياً: الحذر السعودي
باسمِ المحور السعودي، شاهدنا مصر تتقدّم الصفوف، حذرة مشوّشة وتائهة، فيما اتسم موقف الرياض بحذر مضاعف. لم يقم ولي العهد، محمد بن سلمان، أو وزير خارجيته، فيصل بن فرحان، بجولات مكّوكية، وقد استقبلا وفوداً من آسيا ودول إسلامية، صدرت عن اجتماعاتها بيانات، لم يتداولها الإعلام، إلا لماماً، لعدم تضمنها ما يستحقّ النشر. وبينما اتسم البيانان الإماراتي والبحريني بالإدانة الشديدة لـ«حماس»، لقيامها بأسر إسرائيليين، التزمت السعودية خطاباً عربياً رائجاً يدين إسرائيل، بارداً، مكروراً، بلا إجراءات، لا يشفي غليل الفلسطينيين، ولا يتجاوب مع ما يتعرّضون له من إبادة.

ثالثاً، السعودية تخلّت عن "مبادرة السلام العربية"
ما يجعل البيانات السعودية فاقدة للروح والمضمون، وقد تحوّلت إلى لغو، احتواؤها على عبارات تجاوزها الفعل السعودي، منذ مدة طويلة. يشير البيان الصادر من مجلس الوزراء السعودي (17 الجاري) إلى «الدفع بعملية السلام، وفقاً لمبادرة السلام العربية الرامية إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية». تقوم المبادرة على ركنين أساسيين: سلام جماعي عربي، مقابل انسحاب إسرائيلي من الضفة وغزة والقدس الشرقية. وقد تخلّت السعودية عن الركنين: السلام الجماعي، والدولة، وهي تخوض منذ شهور مفاوضات حول إقامة تطبيع مع الكيان لتحقيق أهداف ذات صلة بالأمن السعودي.

رابعاً: الموقف من تهجير الفلسطينيين
ماذا فعل ياسر عرفات حين أراد الاعتراف بإسرائيل، في 1988؟ هرب إلى الأمام، وأعلن إنشاء دولة فلسطينية على حدود 1967، ولم يقل إنه يؤيد القرار 242، كي لا يثير بلبلة، ثم اختار عبارات مموّهة لإدانة الإرهاب، حتى وصل إلى تجريم المقاومة صراحة. من السذاجة اعتبار تصريحات الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن تهجير أهالي غزة إلى صحراء النقب، غلطة مطبعية.
من المنظور السعودي، إذا لم ينجح الحلف الأميركي في إزاحة «أنصار الله»، والأسد، و«تحالف إدارة الدولة»، و«حماس»، فقد ألحق بها ضرراً ملحوظاً

نعم، من المستحيل أن يخطر في ذهن أحد، أن يوافق العرب على إعادة سيناريو نكبة 48، حين هُجِّر نحو 700 ألف فلسطيني، أُضيف إليهم نحو 300 ألف في 1967، لكن علينا النظر إلى أنه بين 1967 و2021 هُجّر نحو 73 ألفاً من بيوتهم. تصريحات السيسي تدقّ ناقوس الخطر، وتُظهر أن مخطّطاً أميركياً مريباً قد يكون قيد الإعداد والتنفيذ، لدفع غزة إلى الهاوية، لكن لا داعي للعجلة، مع ضرورة تقليل سفك الدماء اليومي، ومدّ القطاع بالمساعدات المقطرة، وملاحظة الانعكاسات السلبية على القاهرة.
من الصعوبة افتراض بُعد الرياض عن مثل هذه التصوّرات، وليس من الحصافة استبعادها. ثم إن غسل هذا التصريح يستدعي أكثر من تسيير القاهرة تظاهرات تحثّ «حزب الله» على ضرب تل أبيب، في بلد يكره شعبه إسرائيل، ولكن لا قيمة للشعوب في بلداننا.

خامساً: الموقف من هدم «حماس»
قراءة السيَر الذاتية للدول والفصائل، والتدقيق في رؤاها من الحروب السابقة، أمر لا مناص منه لفهم معركة 2023. لكن، في ضوء «الرغبوية» التي تعمّنا جميعاً، بأن نجد لدى النظام العربي شيئاً إيجابياً، ترانا نحاول أن نضع على الرفّ المواقف العربية الماضية المضادة لـ«حماس» و«الجهاد» و«حزب الله». مع ذلك، ترانا نخفق إخفاقاً ذريعاً في إيجاد عبارة واحدة عربية إيجابية عن المقاومة، ورفض تحطيمها. وإذا وضعنا المجريات في سياق أوسع، فإن تمكُّن إسرائيل من تقويض المقاومة لن يدفع السعودية ومصر إلى ذرف الدموع. الجيش الصهيوني سيفشل، كما تفيد معظم التقديرات، لكن ألن يتمكن من إضعاف البنى الاقتصادية والعسكرية للقطاع؟ من المنظور السعودي، إذا لم ينجح الحلف الأميركي في إزاحة «أنصار الله»، وبشار الأسد، و«تحالف إدارة الدولة»، و«حماس» من سدة القرار في صنعاء ودمشق وبغداد وغزة، فقد ألحق بها ضرراً ملحوظاً.

سادساً: قناة «العربية» تتلقّف خالد مشعل
دعوني أنهي المقالة هذه بمشهد إعلامي خليجي مرتبط بالحدث. فبينما يشيد «حزب الله»، من صميم قلبه، بـ«حماس» وجنودها، ويضع كامل ثقته في هيئة أركانها، وهكذا يفعل أقطاب محور المقاومة الآخرون، أدلى القيادي في «حماس» الخارج، خالد مشعل، بتصريحات لم يُعتد سماعها من قيادات القدس والضفة وغزة والداخل والشتات، فقد طالب «حزب الله»، من على شاشة «التلفزيون العربي»، بالقيام بمزيد من العمل العسكري ضد إسرائيل! ولم تمضِ ساعات، حتى أفردت قناة «العربية» ضعف الوقت الذي منحه «التلفزيون العربي» لمشعل، مع أن القنوات السعودية والإماراتية لا تستضيف قيادات المقاومة ولا مقرّبين منها، ولكن «العربية» كسرت قرارها، ما دام مشعل قادراً بسبق إصرار وترصّد على الإساءة إلى شركاء النضال. وفعلاً، بدل أن يُعبّر الرجل عن ثقته المطلقة بالحزب اللبناني المقاوم الذي يسيل دمه عبيطاً، وهو جزء رئيسي في مساندة «كتائب القسام»، وفي التحضير لـ«الطوفان»، فقد أخفق مشعل في تصحيح موقفه الناشز، وأعاد تكرار مقولته عن المطالبة بالمزيد، متحدّثاً كهاوٍ، متناسياً، وهو القيادي القديم، أن الخطط تُرسم في الغرف والأنفاق، لا على الشاشات، وبدا وكأنه لا يستطيع حتى ملاحظة أن الأميركيين والصهاينة يتحدّثون وفقاً لنوتة واحدة صارمة لخنق محمد الضيف ورفاقه، وها هي أميركا تمنح إسرائيل ضوءاً أخضر لسحق كل ما يمتّ إلى رفع السلاح بصلة. التجارب تعلمنا، أنه لا يمكن جرّ «حزب الله»، ولا دفعه، إلى القتال أو عنه، فهو يملك قدرة استثنائية على اتخاذ القرارات الصعبة، التي لا يتوقّعها أحد.