لطالما ارتبطت التفاعلات الروسية - الصينية، وتحديداً منذ تدشين البلدين في عام 2022 "شراكة بلا حدود"، بمساعي مقارعة الهيمنة الأميركية، وهو ما ينطبق بالضبط على زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أخيراً، للعاصمة الصينية بكين. وكما كان الإعلان عن تلك الشراكة، عنوان مرحلة جديدة في أوروبا، سرعان ما افتُتحت بعد أسابيع قليلة ببدء الحرب في أوكرانيا، يكتسب الفصل الجديد من التعاون الإستراتيجي بين البلدين، اندفاعة لترجيح كفّة رهاناته في الشرق الأوسط، هذه المرّة ممّا أرسته عمليّة "طوفان الأقصى" من مشهد إقليمي متغيّر. المفارقة أن الزيارة التي بدأها بوتين، الثلاثاء الفائت، للمشاركة في فعاليات منتدى "الحزام والطريق"، والتي تُوّجت بلقاء جمعه إلى نظيره الصيني، شي جين بينغ، جاءت مترافقة مع عودة التحسّن التدريجي، أقلّه دبلوماسيّاً، في العلاقات الأميركية - الصينية، منذ زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، للصين، في حزيران الماضي، والتي أعقبت شبه قطيعة دبلوماسية بين البلدين بسبب "أزمة المنطاد الصيني". وعلى رغم أن البعض روّج لنجاح بلينكن في "مهمّة" إقناع القادة الصينيين بـ"جدوى" البقاء على مسافة من الروس، ضمن حملة غربية "تصطاد" في تبايناتهما حيال عدد من القضايا، بدءاً من آسيا الوسطى، وليس انتهاءً بفيتنام، حملت قمّة شي - بوتين رسائل في اتّجاه معاكس، وصلت ارتداداتها إلى الشرق الأوسط. وخلال افتتاح منتدى "الحزام والطريق"، بدورته الثالثة، والمصادف انعقاده هذا العام الذكرى العاشرة للإعلان عن المبادرة، جدّد شي استنكاره "سياسات المحاور والمواجهة على أسس أيديولوجية"، ومنطق "الصراعات الجيوبوليتيكية"، مؤكّداً رفض بلاده نهج "العقوبات الأحادية"، و"الإكراه الاقتصادي"، في نقد مبطّن إلى واشنطن. وفي حين تجنّب الحديث بشكل مباشر عن الأوضاع في غزة، مفضّلاً التشديد على رغبة بلاده بالدفع في اتّجاه "حلّ عادل وشامل" للقضية الفلسطينية، والتأكيد أن "الطريق الأساسي للخروج من الأزمة، يتمثّل في إقامة دولة فلسطينية مستقلّة"، اعتبر بوتين أن ما يجري هناك يشكّل دافعاً "لتعزيز العلاقات الروسية - الصينية"، باعتباره فشلاً للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، مؤكداً حاجة البلدَين إلى تنسيق مواقفهما الخارجية بصورة أوثق، بالنظر إلى ما سمّاه "الظروف (الدولية) الصعبة في الوقت الراهن".
وبعيداً من التصريحات، تبدو الممارسة السياسية، لكلّ من بكين وموسكو، خصوصاً بالنسبة إلى العدوان الإسرائيلي على القطاع، أكثر انسجاماً، ولا سيما أن الصين، التي سبق أن ندّد وزير خارجيتها، وانغ يي، بسياسة "العقاب الجماعي" التي تمارسها إسرائيل في حقّ الشعب الفلسطيني، معتبراً أن الأداء العسكري للأخيرة "قد تجاوز حدود الدفاع عن النفس"، كانت قد أيّدت مشروع القرار الروسي الأخير في مجلس الأمن الدولي، والذي دعا بشكل أساسي إلى وقف إطلاق النار، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وقبل ذلك، سجّل "عدّاد التقاطعات" بين روسيا والصين، رفضهما إدانة حركة "حماس" إثر عمليّة "طوفان الأقصى"، وانتقادهما الغارات الإسرائيلية المتواصلة على القطاع، فضلاً عن إبدائهما رغبة بإحياء "محادثات السلام" بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد عقود من المراوحة.
إزاء ذلك، تثار تساؤلات حول مديات هذا التحالف النشط في المنطقة، وتداعياته المحتملة على مستقبل القضية الفلسطينية. وفي هذا المجال، يَبرز اعتبار رأس الدبلوماسية الصينية أن "جوهر القضية (الصراع في الأراضي المحتلّة) يكمن في عدم تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني"، وهو ما قرأ فيه مراقبون غربيون تحوّلاً عن النهج الصيني التقليدي القائم على "عدم التدخّل"، والذي طبع مقاربة بكين للقضية الفلسطينية منذ "اتفاق أوسلو" مطلع التسعينيات، لمصلحة سياسة أكثر حزماً تساعدها على تعزيز علاقاتها مع بلدان الشرق الأوسط، وذلك بهدف ملء "الفراغ الإستراتيجي" هناك، في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وتراجع حضورها في الإقليم ككلّ.
وكما نجحت الدبلوماسية الصينية في وقت سابق من هذا العام في دور الوساطة بين السعوديين والإيرانيين، من خلال "اتفاق بكين"، فهي تأمل في إنجاز اتفاق مشابه بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وتحت عنوان: "بتأييد من بوتين... شي يَطرح رؤيته لقيام نظام عالمي جديد"، تذهب صحيفة "نيويورك تايمز"، إلى أن اهتمام الرئيس الصيني ينصبّ على إظهار بلاده كـ"قوّة داعمة للاستقرار" في الشرق الأوسط، ولا سيما أنه يرى في شخص بوتين حليفاً يشاركه الرؤية نفسها، المدفوعة بـ"خطاب المظلومية" إزاء الغرب، و"الرغبة في التصدّي للهيمنة الأميركية". وتضيف الصحيفة الأميركية أن ما يدور في قطاع غزة، يكشف حقيقة اتّساع دائرة التباينات بين الغرب من ناحية، وروسيا والصين من ناحية ثانية، لافتةً إلى أن تلك التباينات لا تتعلّق بتحديد الطرف المسؤول عن تصعيد أعمال العنف، فحسب، بل أيضاً بتفاوت في النظرة لدى كلّ طرف إزاء قواعد وأحكام انتظام العلاقات الدولية، والجهة المنوط بها رسم هذه القواعد.
ولعلّ واقعة قصف مستشفى "المعمداني" في غزة، تُعدّ مثالاً صارخاً على هذا النوع من الانقسامات. فبينما مال الغرب "الديموقراطي" إلى تبرئة إسرائيل من الجريمة، بالاستناد إلى مقاطع فيديو مفبركة، كان موقف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قاطعاً في إدانة ما وصفه بـ"الجريمة" و"العمل غير الإنساني"، داعياً الجانب الإسرائيلي إلى تقديم صور الأقمار الاصطناعية لتأكيد مزاعمه. وفي حين تنطلق باكورة جهود الصين الدبلوماسية بخصوص غزة، عبر إيفاد مبعوثها الخاص إلى الشرق الأوسط، تشاي جيون، كمحاولة للتوسّط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من نجاحها في رعاية "اتفاق بكين"، يرى خبراء أن دبلوماسية موسكو ليست في أحسن أحوالها، من حيث وقوعها تحت ثقل ما يرونه "إخفاقاً" في إدامة دورها "الدبلوماسي" في إدارة التوتّرات بين أرمينيا وآذربيجان.
على أيّ حال، الثابت أن للقاء القمّة بين الزعيمين، دلالاته سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو على مستوى النظام الدولي. ففي البعد الأول، لا يمكن تجاهل تمسّك الجانبَين بالعلاقات الإستراتيجية بينهما، بما يشمل تعاوناً عسكرياً متزايداً، تشكّل المناورات العسكرية في المحيط الهادئ، صيف العام الجاري، أحد مظاهره. أمّا على المستوى الثاني، فقد شكّل اللقاء علامة إضافية على طموح الزعيمَين إلى إعادة تشكيل النظام العالمي، ضمن خطوط تماس تترسّخ يوماً بعد يوم، ما بين جبهة تمتدّ من الصين، مروراً بروسيا، وكوريا الشمالية، وصولاً إلى إيران، وأخرى عمادها "قوى حلف الناتو"، وفي طليعتها الولايات المتحدة، وذلك على وقع حرب أوكرانيا، وحديثاً غزة، وفق محلّلين غربيين. ويشير هؤلاء إلى أن التحالف الصيني - الروسي الجديد في شأن جولة التصعيد القائمة في الشرق الأوسط، إنّما يعكس رغبتهما بتصوير نفسيهما كقائدَين لمحور بلدان "العالم النامي"، ومن ضمنها الدول العربية الغنية بالنفط.
تثار تساؤلات حول مديات التحالف الروسي - الصيني النشط في المنطقة، وتداعياته المحتملة على مستقبل القضية الفلسطينية


وضمن السياق نفسه، هلّلت صحيفة "برافدا" الروسية لزيارة بوتين لبكين، باعتبارها "دليلاً على حجم نفوذه الدولي"، مشيرة إلى أن "موقف بوتين القوي، والمعادي للغرب، سوف يترك أثراً حاسماً على إرادة (الرئيس) شي لمواجهة الولايات المتحدة". وعن الحسابات الروسية في ما يخصّ الأوضاع في غزة، يَعتبر متابعون للشأن الروسي أن موسكو لديها مصالح مزدوجة، كونها تراهن على تركيز واشنطن على مساندة تل أبيب عسكرياً ومالياً، وانشغالها عن مواصلة دعم كييف، من جهة، بينما تساورها مخاوف في الوقت نفسه من إمكانية توسُّع الصراع نحو الإقليم، خوفاً من ارتداداته السلبية على مستقبل الحضور الروسي في سوريا، وعلى مشروعات إقليمية مرتبطة بالغاز والنفط من جهة ثانية. وتسلّط مديرة برنامج أوراسيا في "مركز جيمس مارتن لدراسات منع الانتشار (النووي)"، الضوء على جانب آخر من حسابات كل من روسيا والصين، وهو حرصهما على توظيف خطابهما السياسي حيال القضية الفلسطينية بهدف استمالة بلدان ما يُسمّى "الجنوب العالمي"، مشيرةً إلى أن تلك البلدان أصبحت "مجالاً حيوياً جديداً للمنافسة المحتدمة الجارية بين محور الغرب من جهة، و"المحور البديل" الذي تطرحه روسيا والصين، من جهة أخرى. وتتابع: "من وجهة نظر الكثيرين في بلدان الجنوب العالمي، تقوم الولايات المتحدة بمحاربة روسيا، بوصفها محتلّة لأوكرانيا، ولكن عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، فإن الولايات المتحدة تقف إلى جانب دولة الاحتلال، الأمر الذي تستغلّه روسيا".