رام الله | يبدو أن الاحتلال الإسرائيلي، وفي ذروة العدوان الذي يشنّه على قطاع غزة، لم ينسَ اللطمات التي وُجّهت إليه مراراً في مخيم جنين، فانتهز الوقت على حين غرّة، وشنّ غارة جوية بطائرة حربية من طراز «إف-16» على مسجد «الأنصار»، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ 20 عاماً، وتحمل في طيّاتها تصعيداً ينذر بمرحلة خطيرة، علماً أن المرّة الأخيرة التي استُخدم فيها سلاح الطيران هناك، كانت في الثالث من تموز الماضي، حين استُعين بمروحية «أباتشي» لتأمين عمليّة إنقاذ قوات وآليات عسكرية وقعت في كمين في جنين. وفي ذلك الشهر، ولدى إطلاقه عملية عسكرية واسعة في المخيم، كانت حارة الدمج التي تطلّ على هذا الأخير، أحد أبرز محاور الاقتحامات الإسرائيلية، إذ شهدت أعنف الاشتباكات والمواجهات بين جنود العدو والمقاومين، الذين نجحوا في نصْب كمائن قاتلة ومُحكمة للجنود الإسرائيليين. ووقتها، تحصّن مقاومون في مسجد «الأنصار» الذي تعرّض لحصار من قِبَل قوات الاحتلال، وقصفٍ لمحيطه من الطائرات المُسيّرة، غير أن المقاتلين تمكّنوا من الانسحاب عبر نفق في أسفل المسجد، ليُجنّ جنون العدو.هذه اللطمة، والخسائر التي تكبّدتها إسرائيل من جرّائها، لم ينسَها جيشها الذي عاد، فجر الأحد، ليقصف المسجد بصاروخ موجّه، مدمّراً طبقاته الثلاث بشكل كامل، بذريعة «تدمير مسار نفق تحت الأرض»، وتصفية «خليّة مشتركة لحماس والجهاد الإسلامي كانت موجودة داخل النفق، وهي مسؤولة عن سلسلة من الهجمات التي تمّ تنفيذها في الأشهر الأخيرة». وأظهر القصف، الذي استشهد على إثره مقاومان، هما: محمد عبدالله من محافظة سلفيت، ومحمد عايد من جنين، وأصيب ثلاثة آخرون، اختراقَ الصاروخ طبقات المسجد الذي لا يزال صامداً، على رغم أنه بات معرّضاً للانهيار في أيّ لحظة. وبحسب رواية الأهالي، فإن ما تعرّض له المسجد من قصف بطائرة حربية، لم يسبق له مثيل منذ «الانتفاضة الثانية» قبل عشرين عاماً.
وتُستشفّ من لجوء الاحتلال إلى القصف الجوي بهذا الشكل، عدّة دلالات؛ أُولاها، رسالة تصعيد يبتغي العدو توجيهها إلى المقاومين، ومفادها أن الضفة لن تكون بمنأى عمّا تواجهه غزة من عدوان وقصف جوي، من دون الحاجة إلى المغامرة والزجّ بقوات في المخيم، ولا سيما بعدما تكبّد خسائر بشرية في اقتحامات سابقة لمخيمَي جنين ونور شمس، حيث قُتل، قبل أيام، ضابط، وأصيب 10 جنود بانفجار عبوة ناسفة. وكانت قوات الاحتلال توعّدت مخيم جنين بمعركة كبيرة، عقب عمليتها في مخيم نور شمس قبل أيام والتي استمرت لأكثر من 30 ساعة، واستشهد خلالها 13، جلّهم في انفجار طائرة مُسيّرة انتحارية. وبالإضافة إلى ما تقدّم، تكشف عملية القصف حالة التخبّط والارتباك في صفوف جنود العدو، وهو ما ظهر في أكثر من حادثة منذ معركة «طوفان الأقصى»، ولا سيما حين أَطلق جنود الاحتلال النار على زملائهم وعلى مستوطنين في أكثر من مكان، وأردوهم. ولعلّ حوادث من هذا النوع، هي ما يقلق الجيش الإسرائيلي من مسألة الدخول إلى المخيم، في ظلّ الاشتباكات التي تجري في الأزقة، علماً أن الجندي الذي قُتل قبل أربعة أشهر في مخيم جنين، استُهدف بنيران صديقة. وفيما لم تَعُد حالة الاستنفار والرعب في صفوف العدو خافية على أحد، إلّا أن الجيش لا يزال يوجّه تهديدات إلى عائلات المقاومين بقصف منازلهم واعتقالهم جميعاً، في حال لم يسلّم أبناؤها أنفسهم.
ولم يقتصر التصعيد على مدينة جنين؛ إذ شهدت مناطق أخرى في الضفة، فجر أمس، مواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، أسفرت عن استشهاد أربعة شبان، لترتفع حصيلة الشهداء في الضفة، منذ بدء «طوفان الأقصى»، إلى 92. واستشهد كل من عدنان بني عودة (19 عاماً) من بلدة طمون قرب طوباس بعد إصابته برصاص الاحتلال في الرأس خلال مواجهات في بلدته؛ ومالك جميل شرقاوي (26 عاماً) برصاصة في القلب أَطلقها عليه جيش العدو خلال اقتحام نابلس ومخيم عسكر. كما اقتحمت قوات الاحتلال بلدة قباطية قرب جنين، وحاصرت منزلاً اندلعت قربه اشتباكات مسلّحة، استشهد خلالها عبيدة كميل (19 عاماً)، فيما استشهد قتادة غنيمات (20 عاماً) برصاص العدو عند مدخل مخيم العروب بعد إطلاق النار عليه واحتجاز جثمانه. ومساءً، استشهد شابان من قرية زواتا في نابلس، هما جهاد مازن صبحي صالح (29 عاماً)، ومحمد قاسم أبو زر (17 عاماً). أيضاً، وصلت إصابتان إلى مستشفى «رفيديا» الحكومي، إحداهما خطيرة في الصدر، وإصابة ثالثة طفيفة بالرصاص الحي في القدم وصلت إلى «المستشفى العربي التخصّصي».
مع ازدياد توزيع السلاح على المستوطنين، باتت عربدة هؤلاء سيناريو يتكرّر في مناطق متفرّقة من الضفة


كذلك، اقتحمت قوات الاحتلال بلدة قراوة بني حسان غرب سلفيت، ومدينة طولكرم، وعدة منازل في بلدة زيتا (شمال طولكرم)، في وقت قامت فيه جرافة تابعة للجيش بتخريب ممتلكات الأهالي خلال اقتحام مدينة طوباس، حيث اعتُقل 65 مواطناً، بينهم أسرى سابقون، ليرتفع عدد حالات الاعتقال، منذ السابع من الجاري، إلى أكثر من 1130. ولا تشمل هذه الإحصائية العمّال ولا معتقلي غزة، حيث لم تتمكّن المؤسّسات، إلى اليوم، من الوصول إلى أعداد دقيقة وواضحة لهم. وكان لافتاً أيضاً، هجوم مستوطنين، مساء السبت، على بلدة حوارة، التي باتت تعاني بدورها من حصار خانق ومنع للتجوال بفعل قيود الاحتلال، حيث أقدم هؤلاء، تحت حماية جنود العدو، على إحراق المحالّ التجارية وممتلكات الفلسطينيين وأطلقوا النار في الهواء. ومع ازدياد توزيع السلاح عليهم، باتت عربدة المستوطنين في الضفة سيناريو يتكرّر في مناطق متفرّقة، على غرار ما جرى قبل أيام من إطلاق مستوطن النار على شاب في الخليل، وحادثة أخرى في بيت لحم، إضافةً إلى عشرات الهجمات والاعتداءات على المزارعين في حقول الزيتون في أرجاء الضفة.
وعلى رغم استمرار الاقتحامات والاعتقالات، والاستنفار العسكري في عموم الضفة والمترافق مع اعتداءات متزايدة للمستوطنين، فضلاً عن تشديد الإجراءات على الحواجز العسكرية، استمرّت أعمال المقاومة في موازاة المُسيّرات الجماهيرية المندّدة بالعدوان على غزة. وقد سُجّل، منذ بدء العدوان حتى ظهيرة أمس، نحو 1249 عملاً مقاوماً، من بينها 348 عملية إطلاق نار، ومحاولتا إطلاق صواريخ من جنين، و48 عملية نوعية، و851 مواجهات بأشكال مختلفة، خلّفت قتيلين في صفوف الاحتلال، بينما بلغ عدد الشهداء قرابة 96 شهيداً.