في وسط مخيم جباليا للاجئين شمال غزة، لا تشير حركة الأهالي في سوق المخيّم المركزي إلى أن خطّة التهجير الإسرائيلية قد نجحت في تحقيق الحدّ الأدنى من أهدافها. آلاف المواطنين يتنقّلون بين بسطات الخضار والمحال التموينية، وآخرون يصطفّون أمام شحن مياه صالحة للشرب. والحركة، وإنْ كانت تعكس مستوى الكثافة السكانية التي لم تنصَعْ لخطاب الترهيب الإسرائيلي بضرورة التهجير والإخلاء، فإنها لا تخلو أيضاً من الخشية من تكرار استهداف الأماكن المكتظّة. ففي شارع سوق عيادة الوكالة الذي يتوسّط المخيّم، أثارت حركة الأهالي الكثيفة غيظ الاحتلال، ما دفعه إلى قصفه بصورة متعمّدة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى "مخبز أبو ربيع" في منطقة الفالوجا، التي تعرّضت ليل الجمعة لقصف تسبّب في استشهاد وإصابة عدد من المواطنين. في حيّ تل الزعتر شرق مخيم جباليا، الذي تعرض لإبادة مربعات سكنية بأكملها، التقينا بالحاج أبو ماجد سليلم، الذي لا يزال جالساً أمام منزله المدمّر جزئياً. يقول الرجل السبعيني، في حديثه إلى «الأخبار»: «استشهد ثلاثة من أحفادي، وتلقّينا مكالمة هاتفية من جيش الاحتلال بضرورة إخلاء الحيّ، ولكنّني لن أخرج من منزلي، فليقصفوه على رؤوسنا. لم يبقَ في العمر متّسع، لمعايشة تجربة الهجرة مجدداً». وعلى مقربة منه، التقينا بمحمد حماد، الأستاذ في جامعة «الأقصى»، الذي يرفض هو وأسرته الخروج من الحيّ، قائلاً: «احتسبت نفسي وعائلتي شهداء منذ اليوم الأول للحرب، فكرة الإخلاء والتهجير مرفوضة، هنا لدينا بيتٌ وسقف يؤوينا، سنموت أسفل طبقاته، هو خيار توافقنا عليه أنا وزوجتي وأطفالي، خروجنا اليوم هو إذعان للمخطّط الإسرائيلي، وتسليم أرضنا لمشروع المنطقة العازلة».
أمّا في أحياء العودة، الندى، المخابرات، بيت حانون، بيت لاهيا، الكرامة، التوام، السلاطين والسكة، التي نالت الحصّة الأكبر من القصف الذي أتى على الكتلة العمرانية الأعظم منها، فتبدو الحياة شبه معدومة. تلك المناطق تعرّضت لقصف إسرائيلي مركّز، دفع الأهالي إلى إخلاء منازلهم تحت النار، قاصدين مراكز الإيواء ومستشفيا «الإندونيسي» في تل الزعتر، و«اليمني السعيد» في مخيم جباليا، وعدد من مدارس «الأونروا»، في أكبر حملة نزوح داخلي. وعن ذلك، يقول شريف أبو طه، وهو من سكّان حيّ الشيماء في مدينة بيت لاهيا: «لم نجد خياراً سوى الخروج. دمّرت الطائرات الحربية المنازل على رؤوسنا، اخترنا الخروج إلى أقرب نقطة آمنة قريبة من منازلنا، لم نغادر شمال القطاع، ولن نغادره، أكثر أهالينا يشعرون بأن خيار البقاء في شمال غزة أقلّ تكلفة من التهجير إلى العراء في جنوب القطاع (...). بكينا حينما تركنا منازلنا، شعر الجميع بأن مغادرة المنطقة ستكون هجرة أبدية. لذا، آثرنا البقاء».
الوصول إلى مرحلة الصمت الناري من طرف المقاومة، التي تمهّد لبدء العمليّة البرية، لا يزال بعيداً نسبيّاً


من جانبه، يرى الحاج أبو رامي، الأستاذ الذي أصيب في قصف استهدف منزل جيرانه من عائلة شاهين، أنه لا أماكن آمنة، لا في شمال القطاع ولا في جنوبه، إذ يقول، في حديثه إلى «الأخبار»: «أكثر من 70 مواطناً استشهدوا في طريقهم من شمال غزة إلى الجنوب عبر شارع صلاح الدين، مَن كُتب عليه الموت سيناله في أيّ مكان من القطاع، الشهادة هي الخيار الأمثل من الموت ذلّاً في مراكز الإيواء والتهجير».
السلوك الإسرائيلي في قصف الأحياء الطرفية من مناطق شمال مدينة غزة، يشير إلى أن ثمّة هدفاً يُراد تحقيقه من وراء تفريغ مناطق شاسعة من سكّانها. وفي هذا الإطار، يرى الباحث والمحلّل السياسي، إسماعيل محمد، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «الاحتلال يريد أن تُفضي الحرب إلى تغيير ديموغرافي يقود إلى تفريغ مناطق شاسعة من الحدود التي استُخدمت للعبور إلى مستوطنات غلاف غزة من الأهالي، تمهيداً لفرض منطقة عازلة، إنْ لم يتمكّن هو نفسه من احتلالها، يفوّض حكمها إلى قوات حفظ سلام دولية». ويتابع حديثه، قائلاً: «ازدحام مناطق بيت حانون وشرق جباليا وشمال بيت لاهيا، وأحياء الكرامة والمقوسي، بعشرات الآلاف من المواطنين، يعطّل الخطط العسكرية، ويعطي، وفقاً للفهم الإسرائيلي، هامشاً لتحرّك المقاومين، هذا في المدى التكتيكي، لذا فإن أيّ عمليّة برية لا بدّ أن تضمن خلوّ تلك المناطق تماماً من الأهالي، كي يضاعف الاحتلال سياسة الأرض المحروقة، تمهيداً لدخول آمن للدبابات».
على أن الواقع الميداني في مدينة غزة وشمالها، يشير، حتى اللحظة، إلى فشل المساعي الإسرائيلية، إذ يؤكد المكتب الإعلامي الحكومي أن مجموع مَن نزحوا من سكّان شمال القطاع والمدينة إلى المناطق الجنوبية، لا يتجاوز الـ71 ألف مواطن فقط، من بين 400 ألف نزوحوا داخليّاً إلى مراكز الإيواء والأقارب. أمّا عسكرياً، فلا تزال المناطق التي تعرّضت للقصف الناري المركّز، وحتى مناطق أبعد منها إلى جهة الحدود الشرقية والغربية، تشكّل منطلقاً للصواريخ والعمليات المبادرة، من نحو استهداف الحشودات العسكرية بقذائف الهاون، والطائرات المسيّرة. ويشير كل ما تقدَّم، إلى أن الوصول إلى مرحلة الصمت الناري من طرف المقاومة، التي تمهّد لبدء العمليّة البرية، لا يزال بعيداً نسبيّاً.