إنّ تعمّد قتل أبرياء لا يمكن تبريره. لكنّ العدوّ الصهيونيّ أعلن أمام الملأ رغبته بتعمّد قتل الأبرياء وفعل ذلك بسلسلة من الأكاذيب منها قطع رؤوس الأطفال لكي ينزع عنهم الصفة الإنسانيّة ويصوّرهم على أنّهم «وحوش بشريّة»، بذلك يشحن الرأي العام الداخلي والعالميّ ضدّ الفلسطينيّين، بحيث يحقد ويبرّر وحشيّة الهجوم العسكريّ الصهيونيّ على المدنيّين العُزّل، ومنع دخول الطعام والشراب والمحروقات، وهما أمران يرقيان إلى كونهما جريمة ضدّ الإنسانيّة، وتطهيراً عرقيّاً، وإبادة جماعيّة، كما تشهد تصريحات مقرّرة الأمم المتّحدة الخاصة حول حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة فرانشيسكا ألبانيز، وتصريحات متعدّدة لحقوقيّين وجمعيّات حقوق الإنسان.
أمام هذا كلّه، وآلاف الضحايا من المدنيّين والأطفال وتدمير عشرات آلاف الوحدات السكنيّة التي تحتضن حبّاً وذكريات وعائلات حيّة، صدر في 15 تشرين الأوّل، بيان عن اللبنانيّين من بطاركة وأساقفة وكهنة وعلمانيّين، المشاركين في أعمال سينودس الأساقفة الكاثوليك المنعقد برئاسة البابا فرنسيس ليتكلّم بشكل مفاجئ عن «الحرب بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين» معادلاً بين قوّة احتلال هي قلعة عسكريّة استعماريّة مزروعة في منطقتنا وتقمع شعبنا منذ 75 عاماً وتحتلّ أرض الفلسطينيّين وتنكّل بهم، ومجموعة من المقاومين المسلّحين. هذه ربّما أوّل مرّة في التاريخ يُعلن فيها محتلّ الحربَ على الذين احتلّهم! وتبنّي البيان لعبارة «الحرب» يقع في مطبّ الدعاية الصهيونيّة. وعبّر كاتبو البيان عن «قربنا من عائلات الضحايا، ونصلّي من أجلهم ومن أجل جميع الذين يعيشون ساعات من الرعب والألم» دون ذكر الفلسطينيّين بأيّ شكل مخصّص. وإن كان الحزن يصيب القلب عندما يرى موت أيّ إنسان، فإنّ البيان بإغفاله عن واقع الاحتلال يساوي الضحيّة بالجلّاد والعنف المؤسّسي للاحتلال بالعنف الدفاعيّ التحرّريّ للمقاومة.
بعد بضعة أيّام، في 19 تشرين الأوّل، بعد قصف المستشفى المعمداني في غزّة، صدر بيان آخر عن لسان جميع البطاركة والأساقفة والكهنة والعلمانيين من بلدان الشرق الأوسط المشاركين في أعمال السينودس، فأدانوا «بشدة العملية الإجرامية» دون ذكر إسرائيل، وعبّروا بشكل عام عن «حق الأبرياء في العالم أن يعيشوا بأمان»، وأغفلوا ذكر الفلسطينيّين أو كلمة فلسطين تماماً، أي إنّهم غيّبوا أصحاب الأرض.
بعكس ميوعة هذين البيانين، جاء بيانٌ لمجلس كنائس الشرق الأوسط وآخر للمجمع الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ. فقد جاء بيان مجلس كنائس الشرق الأوسط في (18 تشرين الأوّل) ليصف الواقع بأنّه «إبادة جماعية وتطهير عرقي يطاول محتجزي أكبر سجن في التاريخ البشري وعن سابق تصوّر وتصميم» و«جريمة ضد الإنسانية» مطالباً بوقف العدوان ورفع الحصار -وللتذكير هو مستمر منذ ستة عشر عاماً- وفتح المعابر. ولكنّ البيان أيضاً أغفل ذكر الكيان الصهيونيّ بالاسم. ثمّ صدر في (21 تشرين الأوّل) عن المجمع الأرثوذكسي الأنطاكي المنعقد بين 16 و21 تشرين الأوّل بيان ذكر فيه بوضوح «أهمية القدس في ضمير كل مسيحي ومسلمٍ» و«حقّ العودة للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة» وأكّد إدانة «الكنيسة الأنطاكية الحصارَ المفروض اليوم على الشعب الفلسطيني وعلى قطاع غزة تحديداً وتستنكر وتشجب الإبادة الجماعية المرتكبة فيه تحت أنظار العالم»، وأنّ «ما يجري من عنفٍ هو نتيجة عدم احترام القوانين والقرارات الدولية في تطبيق العدالة. وهو استمرارٌ لتزييف هوية الأرض والتاريخ ومحاولةٌ لطمس القضية الفلسطينية». ولكن أغفل البيان ذكر الكيان الصهيونيّ كمرتكِب، ولو أنّه معروف من القاصي والداني.
ويستغرب المراقب إغفال ذكر الفلسطينيّين (وقضيّتهم) بشكل مخصّص في البيانات الكاثوليكيّة عندما صدرت من روما، بينما الكنائس الكاثوليكيّة (ومنها المارونيّة) هي عضو في مجلس كنائس الشرق الأوسط وصدر بيان مجلس الكنائس باسمها. ولا يسع المرء إلّا الاستنتاج بأنّ إغفال ذكر الفلسطينيّين في بيانات روما فيه تجنّب واضح لذكر فلسطين واستبدال الكلمة «الأرض التي قدّسها» ربّ السلام، والعبارة وردت بطريقة أخرى في دعوة لاحقة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان يوم 17 تشرين الأوّل الذي دعا إلى يوم صلاة «طلباً لنعمة السلام في منطقة الشرق الأوسط وبنوع خاص في الأراضي المقدّسة». ولا يمكن فهم تجنّب ذكر فلسطين إلّا كموقف سياسيّ (نذكّر بأنّ تغييب واقع هو موقف سياسيّ)، ويتساءل المرء إن لم يكن ذلك مرتبطاً بكون الفاتيكان يعترف بالدولة الصهيونيّة ويقيم علاقات معها. وبذلك، نرى من جهتنا تضارباً بين التبعيّة الدينيّة للفاتيكان كرأس إيمانيّ عقيديّ للكنائس الكاثوليكيّة والموقف السياسيّ لتلك الكنائس. لا يمكن لأحد إقناعنا بأنّه على العكس موقف يتجنّب الخوض في السياسة، لسببين: الأوّل، أنّ عدم التدخّل في السياسة هو موقف سياسيّ، وأنّ الكنائس الكاثوليكيّة تدخّلت في السياسة بواسطة بيان مجلس الكنائس. المشكلة إذاً هي في روما، في البابويّة التي لا تزال على موقف يقبل بوجود «إسرائيل» ولا يتجرّأ على الخوض في مواجهة الجلّاد، ونعتقد أنّ ذلك يعود إلى كون البابويّة لا تزال إلى حدّ بعيد أوروبيّة المركز، وهناك ماضٍ طويل للأوروبيّين في معاداة الساميّة، زد على ذلك ما تكشّف أخيراً عن معرفة البابويّة بمجازر النازيّة بحقّ المواطنين الأوروبيّين اليهود وسكوتها عنها.
نلاحظ أنّ بيان المجمع الأرثوذكسيّ كان الأكثر تقدّمية وإظهاراً للوعي لذكره أساس الأسباب: تغييب العدالة


كلّ البيانات، حتّى التقدّمية، لا تشير إلى حقّ الفلسطينيّين في الدفاع عن أنفسهم وحقّهم في العدالة والتحرّر. هل يمكن أن يكون «ترفّع» جميع البيانات عن حقّ الفلسطينيّين بالدفاع عن أنفسهم بأنّ كلّ الكنائس تنبذ العنف؟ لا نعتقد ذلك، صحيح أنّه ليس من موقف رسميّ للكنائس جميعاً يقول بدعم العنف كوسيلة للتحرّر، ولكنّ جميعها تقبل بوجود جيوش لدول تدافع عن بلادها، وهو موقف الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة (الحرب السورية آخر مثال)، وبالتالي موقف الكنائس ليس مطلقاً من ناحية استخدام العنف. كما أنّ التاريخ القريب يذكّرنا بأنّ الكنيسة الكاثوليكية في بلادنا احتضنت سياسيّاً (في خطأ فادح ومخالفة صريحة للإنجيل) ميليشيات لمسيحيّين في لبنان حملوا السلاح وارتكبوا المجازر وبثّوا الكراهية الطائفيّة؛ فكيف تأنف اليوم عن ذكر حقّ الفلسطينيّين باستخدام العنف من أجل التحرّر؟ ما هذا الموقف «المبدئيّ» الذي يقول باستخدام العنف فقط إن كانت هناك دولة معترف بها وجيوش رسميّة، وكأنّ الدول مقدّسة والحكّام والجيوش قدّيسون؟ إنّه موقف منافق في الحقيقة. لكنّ الفلسطينيّين لن ينتظروا موقف أحد، فالناس ولدتهم أمّهاتهم أحراراً.
أمّا إغفال جميع البيانات ذكر نظام الاحتلال المدجّج بالسلاح وبنظام الفصل العنصريّ، على أنّه الفاعل المجرم، فلا يمكن فهمه إلّا على أنّه خشية. ولا يمكننا إلّا أن نلاحظ أنّ بيان المجمع الأرثوذكسيّ كان الأكثر تقدّمية وإظهاراً للوعي لذكره أساس الأسباب: تغييب العدالة، وهو ما يتوافق مع وعي جميع العاملين لتحرير فلسطين أنّه لا سلام ممكن إلّا على أساس العدالة، فكلّ ما بُني على الظلم هو عنفٌ مؤسّسيّ، ويولّد العنف الدفاعيّ كفِعل يسعى به الناس إلى تحقيق العدالة.
نعم العدالة -والتحرّر عدالة- هي أساس السلام، لكنّ العدالة لا تأتي على طبق من فضّة أو ذهب، عليك أن تنزعها من فم الوحش، عليك أن تنتزعها بالقوّة، أتكون القوّة عنفيّة أم لا عنفيّة؟ هذا شأن الناس وما يناسبهم وما يستطيعون. ولكنّ الكنائس الأنطاكيّة لا تتبنّى رسميّاً حتّى الخطاب الدفاعي اللاعنفيّ عن العدالة، هي في حالة خروج كامل من التاريخ، تعظ بالعدالة ولا تلهب قلوب وخيال مؤمنيها بجمرة إنجيليّة بأن تقول لهم، مثلاً، إنّ المقاطعة لدولة الاحتلال تعبير عن أقلّ الإيمان بضرورة العدالة لبناء السلام.
السلام يأتي «من فوق» ولكنّه يحتاج إلى عمل يجعله يتجسّد هنا «تحت»، على هذه الأرض وفي بُناها.

* كاتب وأستاذ جامعي