أكاد لا أصدّق، أنّ بِمُكْنة المرء الذي جعل من المعرفة كتاباً له، ومن التاريخ مستنداً، ومن الحكايات حقولاً للتمعّن في حياة الناس، وصوراً للمجتمعات وطرائق العيش، ومن العقائد جهة للتصويب والاستنارة، أن يعيش حياته كلّها، وقد قاربت الثمانين عاماً، في خدمة الكذب والتلفيق وإدارة الظهر لكلّ منطق وحقيقة. وأن يستخدم معارفه كلّها من أجل فضح مجتمعه، ودكّ حصون عقيدته، والكشف عن التصاقه بكلّ ما قاله المستشرقون ذوو القصد والنيات السود، وهو قول لا حقّ يحفّ به، ولا مصداقية تقاربه، ولا غاية إنسانية تُرتجى منه، لأنه قول أسود أسود في حبره ومعناه وغايته.
طبعاً، أنا هنا أتحدّث عن الطاهر بن جلون، الكاتب الذي ولد في مدينة فاس المغربية سنة 1944، وهجر بلاده المغرب إلى فرنسا/باريس ليعيش فيها منذ أوائل السبعينيات احتجاجاً صريحاً على تعريب المغرب للمناهج الدراسية في مدارسه وجامعاته، أي إنه لم يغادر المغرب لظلم وقع عليه، أو لمساءلات حاصرته، أو لخوف استشعره أو لغاية لم يحقّقها.
ومنذ ذلك التاريخ، 1971، شرع ابن جلون يكتب الشعر والقصة والرواية باللغة الفرنسية ويكتب المقالات في جريدة «لوموند» الفرنسية أيضاً، وقد كتب كتابات عن المغرب تاريخاً وجغرافيا، وعن المجتمع المغربي عادات وتقاليد وعقائد، ما جعل من كتاباته فرجة قبيحة تحاكي ما قاله بعض المستشرقين الذين صوّروا المجتمعات العربية على نحو لم تعرفه، وقالوا عنها ووصّفوها بما لا يليق بأهلها الذين رسموا لهم نمطية شخصية لا تفارق صفات الجهل والتخلّف والعماء والتعصّب وقلة الحياء!
أكتب عن ابن جلون، وأتحدّث عنه لأنه يطلّ برأسه في هذه الآونة، وقد علا الشيب رأسه، ليقول من دون رفّة جفن بأنّ الفلسطينيين الذين يطالبون بحريتهم وعودة وطنهم إليهم، وخلاص أرضهم من اغتصاب عمره 75 سنة، وافتكاكِ حياتهم من الظلموت القاهر الذي عاشوه، والحصار الذي أحاط بهم فسدّ عليهم منافذ العيش الكريم، يقول عنهم واصفاً بأنهم «أقل قيمة من الحيوانات، وأن ما يفعلونه لا تفعله الحيوانات»، وهو بذلك يكرّر قولة الأميركيين الذين عادوا، بعد الاطّلاع والمراجعة، لنسف قولتهم والاعتذار عن ما بدا منهم في لحظة الانفعال. ابن جلون لا يعتذر، ولا يراجع نفسه، ولا يريد الاطّلاع لأنه باع نفسه للشيطان، ليس الآن في عام 2023، وإنما منذ أوائل عقد السبعينيات في القرن العشرين المنصرم حين كتب روايته «ليلة القدر» أو «الليلة المقدّسة» التي شوّهت صورة المجتمع المغربي بكذب مفضوح، وتلفيق مهزوز، وجرأة فارغة من أيّ قصد نبيل، حين جعل النساء يصلين عاريات أمام الرجال من أجل تشويه العقيدة. وحين كتب روايته «محا المعتوه ومحا العاقل» أجرى مفاضلة فيها الكثير من السذاجة ما بين الأديان، حين اهتمّ بالطقوس وترك العقائد، من أجل أن يقول إنّ محا المعتوه: هو المسلم، وإنّ محا العاقل هو اليهودي، ولم يهمّه إطلاقاً أنّ كتابته تخلّت عن الصفات الذهبية الثلاث الواجبة الوفرة في النص الأدبي، أعني: الإقناع، والمنطق، والمتعة.
اليوم، وابن جلون في عمر الثمانين، وهو في كامل قواه العقلية، ونبرته الفرنجية، وقصديته الملفّقة، ونظرته المحابية، واستغراقه في النظرة الاستشراقية تجاه العرب والإسلام، يتهم الفلسطينيين الذين قُتلوا حتى صارت مقابرهم قرى، وعُذّبوا حتى صارت حياتهم أنَّاتٍ، وصبروا حتى غدوا مثالاً لعشاق المبادئ، طوال 75 سنة، بأنهم أقلّ قيمة من الحيوانات!
يتهم ابن جلون الفلسطينيين الذين قُتلوا حتى صارت مقابرهم قرى، وعُذّبوا حتى صارت حياتهم أنَّاتٍ، وصبروا حتى غدوا مثالاً لعشاق المبادئ، طوال 75 سنة، بأنهم أقلّ قيمة من الحيوانات!


ولو سألنا ابن جلون: لماذا؟! لأنكر علينا الجواب، وهو يعرفه تمام المعرفة؛ أن الفلسطينيين الذين لم ينحنوا لطائرات الأباتشي والـ F16 ، والخوف من النووي الإسرائيلي، أو الرهبة من تدمير بيوتهم فوق رؤوسهم، أو الشكوى من نفاد الطعام والشراب والأدوية، أو من الفقد الذي عاشوه منذ 75 سنة، فقد الأجداد والآباء، والأبناء والأحفاد والفرح، أو من العيش في زمن ثقافة الإخافة والرعب والترهيب، أو طيّ حيواتهم وتخريبها في السجون والمعتقلات...، أنهم أكثر خلق الله نبلاً وجسارةً وعشقاً للحياة والحقّ والجمال، وأن الفلسطينيين لم يعرفوا طيفاً من طيوف المذلة والهوان، ولذلك تمسّكوا بنشيدهم الخالد: موطني، موطني، ترديداً وعيشاً، وقناعةً، وأن الفلسطينين الذين أخذوا قادة عدوهم فجراً، وبثيابهم الداخلية، هم أخلص البشر للشجاعة وعدم التفريط بالحقّ، وأن الفلسطينيين لم يرهبوا من بوارج الغرب وحاملات طائراته وجيوشه وهي تُهرع لنجدة المحتل الإسرائيلي، ولم يكترثوا لقولات إعلام الغرب المنحاز للسردية الإسرائيلية، لإيمانهم بما تربّوا عليه.
أجل، العيب ليس في حمرة الورد، يا ابن جلون، العيب في أهل العماء، الذين لا يفرقون ما بين الطحالب والورد، وما بين الجمال والقبح، وأجل ثانية، نحن نعرف يا ابن جلون، أنك تقدّم نفسك، ومنذ خمسين سنة، لدوائر الغرب الذي تعرف بأنه ظالم ومتوحّش، كيما تعلو في أنظاره، ونعرف أنّك جئت إلى حيفا، بلادنا المحتلة، عام 2010، لتقدّم نفسك ناصراً للظلموت الإسرائيلي الواقع على الفلسطينيين منذ 75 سنة. ونعرف أيضاً طباع الثعابين والضباع وبنات آوى، والضفادع التي تنقّ ظانةً بأنها تصوغ موسيقى تُطرب بها من حولها.
ابن جلون، هذه ليست سقطة أخرى، بل خطيئة لا أخلاقية وأكثر، ولا يقترفها، إلا من عاش حياته كلّها من أجل تأييد ثقافة العماء الغامقة في سوادها.

* كاتب فلسطيني