فيما استكمل جيش العدو استعداداته لشنّ عملية برية على غزة، لا يزال قرار البدء بالتنفيذ يتأخّر لجملة أسباب، يأتي في مقدّمها «تردُّد رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي يُحجم عن اتّخاذ القرار»، وفق محلّل الشؤون العسكرية في صحيفة «إسرائيل اليوم»، يوآف ليمور، وذلك على رغم أن العملية البرية «أُعدّت لتحقيق هدفَين رئيسَين معلنَين، هما: سحق قدرات حماس العسكرية، وإسقاط حُكمها في غزة، من أجل تشكيل واقع جديد على طول الحدود مع القطاع». واعتبر ليمور أن الجيش بات مستعداً للمناورة البرية، منذ اللحظة التي استعاد فيها السيطرة على مستوطنات «غلاف غزة»، وهو ما انعكس في سلسلة تصريحات أدلى بها رئيس الأركان، هرتسي هليفي، وغيره من الجنرالات، فضلاً عن بيانات الناطق باسم الجيش، ووزير الأمن، يوآف غالانت، الذي أكد أمام جنوده الذين التقاهم على حدود غزة، أن «العملية العسكرية باتت وشيكة، وينبغي أن يتوقّعوا أنهم سيقابلون غزة من الداخل قريباً».

لكن هذه العملية لا تزال عصيّة على الإطلاق، لأسباب يربطها البعض بـ«عدد الرهائن الذين تحتجزهم حماس، والبالغ 212 (في آخر حصيلة)»، وخصوصاً أن ثمة جهوداً دولية تقودها قطر للإفراج عن «المدنيين في إطار صفقة» طابعها إنساني. ولربما ترغب «حماس»، كما يقول ليمور، في صفقة من هذا النوع، «لتخفيف الضغوط الدولية الممارسة عليها، ولا سيما أن بحوزتها مدنيين من جنسيات مختلفة»، وكذلك «لقلب الصورة التي لحقت بها من جرّاء تصويرها كداعش». لكن، في المقابل، ثمّة من يردّ التأخير إلى «دواعٍ إسرائيلية» تتّصل بواقع أن «توسيع الأعمال العسكرية قد يُعرّض حياة الأسرى للخطر، ويلغي فرص إطلاق سراحهم».
أمّا الاعتبار الثاني في هذا السياق، فمرتبط، على ما يبدو، بالتوتّرات المتصاعدة على الحدود الشمالية مع لبنان؛ إذ «تتوجّس إسرائيل من ردّ فعل مفاجئ من جانب (المقاومة)، فيما تحشد قواتها بشكل رئيس في غزة»، وذلك على الرغم من أن «حزب الله يحاول بشكل أساسي إشغال الجيش الإسرائيلي ومضايقته، (مع الحرص على العمل ضمن قواعد الاشتباك)، منعاً لتدهور ميداني يفضي إلى حرب قد تكون كارثية على لبنان»، كما يقول المحلّل العسكري، مستدركاً بأن «الطريقة التي يعمل فيها حزب الله يمكن أن تأسر إسرائيل إلى الأبد. ففيما يدفع هو ثمناً زهيداً للغاية، فإن إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً يتمثّل في إخلاء المستوطنات الشمالية، وشلّ الاقتصاد، والتردّد في شنّ عملية برية في غزة». ويتمثّل الاعتبار الثالث في «الدعوات إلى تعميق الضربات الجوية على غزة قبل الشروع في الهجوم البري»، بحسب ليمور، الذي يشير إلى أن ثمّة عدداً غير قليل من الخبراء والمسؤولين السابقين يؤيّدون تأخير العملية البرية، وفي مقدّمهم اللواء في الاحتياط، ومفوض شكاوى الجمهور السابق، يتسحاق بريك، الذي قال، قبل أيام، ما مفاده أنه «ليس علينا الاستعجال في العملية البرية. شهر، شهران... دعوهم يختنقون في الأنفاق». لكن أصحاب هذا الرأي يتجاهلون، وفق ليمور، «عنصر الشرعية الذي سيتضاءل مع إطالة أمد الحرب، وتفاقم الوضع (الكارثي) في غزة». ويلفت إلى أنه «وفقاً لمعطيات مختلفة، فقد نزح إلى الآن نحو 750 ألف فلسطيني، من أصل مليون، تنوي إسرائيل تهجيرهم من شمال غزة إلى جنوبها، ومن المُرجّح أن الخيام التي نُصبت لاستقبال هؤلاء قد تصبح سبباً في تحويل الرأي العام الدولي ضدّ إسرائيل». وقد لمّح وزير الأمن الإسرائيلي إلى أن الغارات الجوية العنيفة التي تشنّها طائراته على القطاع «تمهّد الطريق أمام تقدّم القوات البرية»، باعتبار ذلك تكتيكاً عسكريّاً يخدم قواته في الميدان، ويوفّر الظروف المُثلى للاقتحام، وهو ما أكدته «هيئة البث الإسرائيلية» العامة، «كان 11»، مبيّنةً أن ذلك «لم يأتِ بناءً على توصية من المستوى العسكري، وإنّما عبر أوامر تلقّاها الجيش الإسرائيلي من القيادة السياسية».
وبالعودة إلى بريك، أفادت «القناة 12» الإسرائيلية بأن نتنياهو يجري مشاورات أمنية متنوّعة، تشمل شخصيات أمنية لا تشارك في المنتديات الأمنية المعتمدة (كابينيت الحرب المُصغر، والموسّع). ونقلت عن رئيس الحكومة، قوله: «نحن بحاجة إلى كسب المزيد من الوقت، فحماس لم تخطّط للهجوم فحسب، بل خطّطت للدفاع أيضاً. الدخول الآن سيكون في مصلحة حماس». ونصح الجنرال المتقاعد، نتنياهو، بـ«التركيز على القصف الجوّي المُكثّف، وإطباق الحصار الخانق على القطاع»، على افتراض أن الاجتياح البرّي «ينطوي على خطر حرب إقليمية، وبالتالي من الضروري الاستعداد له سواء على مستوى جاهزية الجيش الإسرائيلي، أو على مستوى الجبهة الداخلية».
صدام نتنياهو - غالانت، «ليس في شأن خطط الحرب فقط»، وإنّما له أيضاً «خلفيات شخصية»


والواقع أن الاعتبارات المتقدّمة نوقشت بشكل موسّع في الأيام الماضية، غير أن مسؤولين شاركوا في هذه النقاشات خلصوا إلى نتيجة مفادها أن «نتنياهو يواجه صعوبة في اتّخاذ القرار؛ فهو من جهة مدرك لحجم التوقّعات المأمولة منه لناحية الردّ على هجوم السابع من تشرين الأول، لكنه في الوقت نفسه يخشى التورّط في دخول برّي في غزة، وربّما في الشمال أيضاً». وينقل ليمور عن مصدر شارك في هذه المناقشات، قوله: «ثمّة أيام قليلة تبقّت لإبقاء الزناد مضغوطاً. بكلمات ثانية، الزمن ينفد لبقاء القوات على الجهوزية التي تتمتّع بها حالياً». كما ينقل عنه تحذيره من «تضرُّر الشرعية الدولية التي تتمتّع بها إسرائيل راهناً، وصولاً إلى تصدُّع التماسك الداخلي فيها». وفي الموازاة، اعتبر مصدر ثانٍ مطّلع على المناقشات، أن «الجهود الرامية إلى إطلاق سراح المدنيين المختطفين، لن تلغي، لو تحقّقت، حقيقة بقاء العديد من الجنود الإسرائيليين مأسورين في غزة لدى حماس، ويتعيّن إعادتهم إلى ديارهم». وفضلاً عن ذلك، فإن «إعادة هؤلاء الجنود لن تلغي الحاجة الملحّة إلى القضاء على حماس وهزيمتها، لأن إسرائيل لو اكتفت بذلك، تكون قد بعثت برسالة انهزامية إلى أعدائها في المنطقة والعالم أيضاً، مقربةً موعد الهجوم المقبل عليها». ويختم ليمور بالقول إنه «في المنظومة الأمنية، ثمّة تأييد ساحق لشنّ عملية برية واسعة النطاق في غزة. وبالإمكان الافتراض أن هذا التأييد نابع ليس فقط من إدراك ضرورة تغيير الواقع في الجنوب، وإنّما لأن كبار الضباط الذين فشلوا في السابع من أكتوبر يرغبون في إصلاح الضرر الجسيم الذي تسبّبوا فيه».
لكن هذه الرغبة قد لا تتقاطع مع رؤية نتنياهو؛ إذ كشف المحلّلان العسكريان في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، ناحوم برنياع، ورونين بريغمان، عن نشوء «أزمة ثقة» بين نتنياهو من جهة، والجيش الإسرائيلي من جهة ثانية، على خلفية تأخير الاجتياح البري، لافتين إلى أن «هذه الأزمة تسود كابينيت الحرب، وكذلك الكابينيت الموسّع للشؤون السياسية والأمنية»، وأنها لا تتعلّق فقط بتوقيت الهجوم، بل هي أزمة أوسع و«تلحق ضرراً إضافيّاً بإسرائيل، وتضع مصاعب أمام التقدّم في الحرب وأمام اتّخاذ القرارات، ومن ضمنها القرارات المؤلمة»، بينما «إسرائيل بحاجة الآن إلى قيادة فعّالة ومُركّزة على مهمّتها». ولكن التركيز والفاعلية المطلوبَين، تعاكسهما الضغوط الأميركية الممارَسة على إسرائيل لتأخير الاجتياح البرّي، بغية إحراز «تقدُّم في ملفّ الأسرى الإسرائيليين في غزة»، وخصوصاً أن عدداً منهم يحملون الجنسية الأميركية، إذ إن «الرئيس الأميركي، جو بايدن، مقتنع بأن التركيز على هذا الملفّ يسبق أيّ خطوة أخرى، بما في ذلك العملية البرية». ورداً على سؤال عمّا إذا كان يؤيد وقفاً لإطلاق النار، قال بايدن: «ينبغي الإفراج عن الرهائن، وبعدها يمكن أن نتحدث». وجاء هذا في وقت أورد فيه الإعلام العبري، مساء أمس، أن القيادة الإسرائيلية تناقش مبادرة قطرية للإفراج عن 50 رهينة لدى «حماس»، من مزدوجي الجنسية، عبر مصر، فيما المقابل لا يزال قيد النقاش على المستوى الإسرائيلي، و«الساعات القادمة ستوضح ملامح هذه التفاهمات».
كذلك، قارن المحلّلان بين الوضع الذي ساد إبّان «حرب الغفران» عام 1973، والوضع القائم اليوم؛ ففي الأولى «كانت الحكومة الإسرائيلية تقوم بمهامّها، ولكن اليوم، لا توجد إدارة تعمل... وهذه مصيدة عام 2023». وهذه المرّة، «على رغم النيات الحسنة، فإن بيني غانتس وغادي آيزنكوت (خصمَي نتنياهو اللذين انضما إلى حكومة الطوارئ»، يتركان بصمة مقلّصة على النتيجة النهائية، على الأقلّ إلى الآن؛ إذ إنه بموجب الاتفاق الذي وقّعاه مع نتنياهو، لا يمكنهما عقد لقاءات مع ضباط خارج مداولات «الكابينيت»، إلا بعد مصادقة رئيس الوزراء. وفي هذا الإطار، ينقل المحلّلان عن مسؤولين سياسيين وعسكريين، قولهم إن «الحكومة تواجه صعوبة في اتّخاذ قرارات في مواضيع مركزية مطروحة على أجندتها»، مشيرين إلى أنه في «الأسبوع الماضي، منع نتنياهو عمليّة عسكرية استباقية ضدّ حزب الله، اقترحها غالانت، والجيش الإسرائيلي»، وهو ما نفاه نتنياهو، فضلاً عن أن الإدارة الأميركية حثّت على عدم توجيه ضربة كهذه.
وطبقاً للمحلّلَين، فإن هجوم السابع من أكتوبر «تسبّب في أزمة ثقة؛ فنتنياهو غاضب على قيادة الجيش الإسرائيلي، ويحمّلها كامل المسؤولية عمّا حصل. ويتعامل بنفاد صبر مع الآراء والتقديرات التي يسوقها الضباط الذين يحملون رتبة لواء، ولا يسارع حتى إلى تبنّي الخطط التي يقدّمونها له، كما أنه ليس صدفة أنه التقى مرتَين في الأيام الأخيرة مع بريك، الذي يعارض عملية برية في غزة». ويتابعان: «العلاقات بين نتنياهو وغالانت تضع مصاعب كبيرة أمام عمل مشترك، وخصوصاً أن الترسّبات نشأت بينهما في آذار الماضي، عندما أقال الأول الثاني، قبل أن يضطرّ إلى التراجع، وقد تفاقمت هذه الترسبات بعد تسريب معلومات إلى وسائل الإعلام حول منع نتنياهو ضربة استباقية ضدّ حزب الله».
على أن صدام نتنياهو - غالانت، «ليس في شأن خطط الحرب فقط»، وإنّما له أيضاً، بحسب المحلّلين، «خلفيات شخصية»؛ إذ إن «نتنياهو يجهّز نفسه لكفاح جماهيري ضدّه سيبدأ بكلّ قوّة عندما يستقرّ الوضع الميداني»، فيما «انبرى أنصاره، على وسائل التواصل الاجتماعي، لتحميل جهاز الأمن وغالانت، ورئيس هيئة الأركان العامة المسؤولية عن الكارثة». كذلك، يشكّك المحلّلان في قدرة إسرائيل على تحقيق هدف الحرب المعلَن؛ إذ، بحسبهما، «أعلنت الحكومة عن هدف الحرب، ولكن الجيش الإسرائيلي يشكّك في إمكانية تحقيقة. فقد تعهّد نتنياهو وغالانت، في تصريحات عدّة، بمحو حماس عن وجه غزة، من دون أن يفسّرا ما هو المعنى الفعلي لهذا التعهّد. أمّا رئيس هيئة الأركان العامة، فقال إننا «سوف نفكّك البنية التحتية التنظيمية كلّها الموجودة تحت (يحيى) السنوار». ولكن كيف سيتحقّق هذا الهدف؟ هل في مدينة غزة فقط، أم بسيطرة إسرائيل على القطاع كلّه؟». ويضيف المحلّلان إن الجيش «يتّهم المستوى السياسي بعدم وضع أهداف واضحة... لكنه يتّجه إلى الحرب، من دون توضيح كيف سيعلم ما إذا كان قد انتصر، فضلاً عن الحديث عن كيفيّة الخروج من ساحة القتال، (ولذلك) ينبغي (على الجيش) على الأقلّ أن يحذّر من أن الوضع يسير بهذا الشكل».