«في غزة التي على البحر كان الأطفال الفلسطينيون يكتبون أسماءهم بالحبر الساخن على أطرافهم في حروب الإبادة ليسهل التعرف إليهم بعد الانفجار وجمع أشلائهم للدفن». هذا ما سيقرأه التلاميذ بعد مئة عام عن تاريخ الاستيطان البشري في غزة و«غلافها». حينها ستكون غزة، على درب طروادة، في قارة جديدة وفقاً لما يقرره «الفتح والفتح المضاد» في حروب البشر على الحيوانات البشرية. سيقولون إن الفلسطينيين قبل «عبور 7 تشرين الأول 2023» ظلوا يرددون لازمة غريبة مفادها أن التاريخ موشوم على أجسادهم التي صارت هي الأرشيف، إلى أن صاروا هم الوشم على جسد التاريخ الذي لم يتسع له أرشيف ولا أسطورة. سيعجب التلاميذ من أساتذتهم البائسين الذين سوَّل لهم خيال الهزيمة أنّ دليلة حملت من شمشون في فراش الخديعة، وأنجبت العماليق الجدد الذين سيحولون دون قيامته، والذين سيهدمون المعبد على رأسه من جديد إن قام، وأن حمَلة رأس المعمدان إلى الشام لم يلتقوا بحمَلة رأس الحسين إلى عسقلان، لكن نقع الحرب كفيل باختلاط الرؤوس.
هاني زغرب ـ «دروس في الطيران 1» (مواد مختلفة على كانفاس ـــ 81 × 60 سنتم ـــ 2011)

لن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، كيف أوجد رجل أبيض في أوسلو التي في إسكندنافيا، رابطاً بين غزة التي على بحر الحياة وأريحا التي على بحر الموت، وكيف صاغ اتفاقية للسلام المستحيل بين البشر والحيوانات البشرية اسمه «غزة-أريحا أولاً». سيقولون إنها كانت اتفاقية سلام فاشلة بين إرادة الحياة وإرادة الموت، وحلماً ساذجاً للصلح بين بريَّة شمشون وبريَّة سدوم اللتين فاضتا بالدم والخطايا حتى قمة الانتحار في مسادا الدارسة. لن يفهم أحد حينها، كما لا يفهم أحد الآن، كيف احتمل الفلسطينيون في برِّ غزة ثلاثين عاماً لكسر الحصار وتمزيق «الغلاف»، والخروج من المغلف الذي منع عنهم الماء والهواء والغذاء والدواء. ولن يفهم أحد حينئذٍ، كما لا يفهم أحد الآن، كيف جاءت وحوش الحديد التي في «إسرائيل الجديدة [أميركا]» التي على ضفة الأطلسي لنجدة «إسرائيل القديمة [المستعمرة]» التي على ضفة المتوسط لئلا يبتلعها الطوفان. وسيظل اللغز الأكبر الذي لن يستطيع أحد حله بعد مئة عام، كما لا يستطيع أحد حله الآن، هو موقف حامية رام الله، التي بين غزة وأريحا، من الحرب، رغم أنه موقف مشفوع بنظرية مؤامرة رصينة: غزة تآمرت على نفسها مع العدو لقطع رأسها بـ«السيوف الحديدية» والنيل من شرعية تمثيل حامية المشروع الوطني لشعب كامل من الحيوانات البشرية التي رفضت الموت في القفص، وأبت الامتثال لسوط الجلاد واعتقاده الغريب بأنه «ربّ الجنود»، وحكمة الأرنب وحلمه الغريب بأنه سيصير سلحفاة حين يكبر.
لن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، طقوس الحياة والموت في غزة. سيردد أستاذ الإحصاء أسطورة خمسين ألف امرأة فلسطينية حملن قبل الحرب، وخمسين ألفاً حملن في الحرب... لتكتمل الأسطورة، وإن الفلسطينيين، في لفتة طروادية لانتصار برسم الاكتمال، قرروا تسمية كل مولود جديد: «طوفان». في مدن البشر حيث المستشفيات التي لا تعمل بالطاقة الإلهية، كان الغزاة يمنحون للأحياء من المواليد الجدد هوية أولى: إسورة تعريفية على رسغ اليد اليمنى لئلا يضيع في زحام الحضانة، ويمنحون للأموات من المواليد القدامى هوية أخيرة: بطاقة تعريفية بخيط خيش على إبهام قدمه اليسرى لئلا يضيع في زحام المشرحة.

«لَجعَل درع من صدري واحمي رفيقي»

أما في مدن الحيوانات البشرية، حيث أتت قنابل الموت على المستشفيات بحضاناتها ومشارحها، فكان الأطفال الفلسطينيون يكتبون أسماءهم بالحبر الساخن على أطرافهم في حروب الإبادة ليسهل التعرف إليهم وجمع أشلائهم للدفن بعد أن يتم الانفجار وليمة الخراب. كانوا يكتبون أسماءهم على أيديهم وسيقانهم في التقاء غير مفهوم لإرادة الحبو إلى الحياة بإرادة المشي إلى الموت في غزة التي تتساوى فيها الاحتمالات، بعدما هدمت وحوش الحديد مستشفياتها لعقد صلح بين الوجود والعدم. أما الأجنّة في أرحام الحوامل المئة ألف، فكانوا ينتظرون الخروج إلى الحياة أو الموت للانضمام إلى «طوفان» الأسماء التي لم تنتقل بعد من حدِّ الوجود بالقوة إلى حدِّ الوجود بالفعل.
لن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، معنى الكتابة والمحو في غزة. سيقول أستاذ الفلسفة إن الوشم في مدن البشر دليل على هوية الحي، ولكن الوشم في مدينة الحيوانات البشرية دليل على هوية الحي في هيئته الجديدة كميّت، أو الميت في هيئته القديمة كحي. الموت دليل الوجود وشرطه: «أنا أموت، إذاً أنا موجود»، إذ لا وجود لي، كحيوان بشري، قبل إعلان موتي على الشاشات الذكية للبشر الذين يقتلونني من بعد بأسلحتهم الذكية، فيصير موتي دليلاً على وجودي لا حياتي. هذا هو كوجيتو غزة في زمن الفداء القاتل والمعرفة المقاتلة. لن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، أن الكتابة بالحبر الذي ينتحل صفات الوشم هي جسر أطفال غزة لملاشاة المسافة بين العوالم التي تتغاير بين حياة تشبه الموت وموت يشبه الحياة. الكتابة تسخر من لعبة الحياة والموت، لا لأنها جسر بينهما يفصح عن معنى الضفتين، بل لأنها تدرك قدرتها على البقاء في وجه مطر الإبادة القادم من سماء الإنسانية التي أعلنت خريف الإنسان.
لن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، أنّ الوشم ليس نظام تصنيف للأحياء بقدر ما هو نظام تصنيف للأموات. فالكبير كبرت هويته لتفصح عنه ويفصح عنها، وأما الصغير، فلا يملك من هويته إلا اسمه الذي سيحيله إلى شخص بلا ذات: من نقطة في عالم الغيب إلى خط في عالم الشهادة... هذه هي حكايتنا في بلادنا فلسطين: النقطة في التاريخ تحتاج إلى حرب كاملة لتصير خطاً في الجغرافيا. لكن ملاقاة الموت تلزم الجسد بالاحتراس من لذة البقاء بوثيقة تضمن لذة الفناء. وأما وثيقة الضمان، فهي الكتابة المستحيلة التي أوصى بها الله لئلا تضيع حقوق العباد... لا على طريقة إشعيا، خبير الأسماء والشؤم القديم، الذي أفاق من موته قبل سبعين عاماً وأعار لسماسرة الدم «نصباً أفضل من البنين والبنات، واسماً أبدياً لا ينقطع» في بيت غيره وعلى أسوارهم التي على حافة القدس والمذبحة: «يد واسم». بل على طريقة أطفال غزة: فمن أعاره الله جسداً وروحاً، توجب عليه كتابة صك الإعارة على الجسد لئلا تفقد الروح ركوبتها في الذهاب إلى آخر الحب، وآخر الحرب. الأطفال يعيرون الله والكون أياديهم وأسماءهم، فتصير غزة كلها: اليد والاسم.

«إنا نبشِّرك... اسمه يحيى»

لن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، معنى انتحال أطفال غزة أسماء الله الحسنى وقد حجبت الطائرات صلواتهم من الوصول. سيقول أستاذ الأديان إن الجسد هو أجمل كتب الله القديمة لأنه الوسيط الهالك بين كتاب الزمان وكتاب المكان، وواو العطف بين كتاب القرآن وكتاب الأكوان، ولا يكتب الكتاب إلا كاتبه. فأستاذ الأديان، ورغم شبهة التقوى التي تقطر من شيب لحيته كمطر كسول، يفهم في الفنون الأدائية للبيان والاقتصاد السياسي للدلالة، ويعرف أنّ الإنسان يملك الاسم ولا يملك الجسم، رغم أن من يُسمِّي يُحيي، وأن من يُسمِّي يُميت. حينها، ستردُّ عليه أطياف أطفال غزة بأنهم لم يرغبوا في انتحال ولا كمال، ولم يقصدوا اختطاف القلم المقدس من صاحبه الذي تعرَّقت يده من خطايا البشر... فكان البحر. سيقولون إن أستاذ الدين في المدرسة الصغيرة علَّمهم أن الحساب يوم القيامة سيكون بلغة القرآن. وحتى يأمنوا على مستقبلهم ألا يضيع في مملكة السماء كما ضاع في مملكة الأرض، كتبوا أسماءهم بالعربية الفصحى. سيقولون إن أحد رفاقهم الأشقياء حاول التغرير بهم حين روَّج إشاعةً تفيد بأن في السماء رباً ثانياً أبيض لا يعرف إلا إنكليزية «سي. إن. إن»، ورباً ثالثاً رمادياً لا يعرف إلا عبرية «غاليه تساهل»، وأن عليهم الالتزام بالقانون الانتدابي وكتابة أسمائهم باللغات الثلاث ليقرأها العالم... لكنهم لم يعيروه اهتماماً. فأطفال غزة يتقنون الغياب رغم خشيتهم من غدر الغيب. لقد واصلوا كتابة أسمائهم بحروف العربية، وأصروا على سرقة حروف الله ليقدموها هدية له لحظة اللقاء.
الفدائيون القدامى، لن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، كيف نسوا أسماء الأمهات على «كعب البارودة»


لن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، معنى الغفران حين فقدت الحيوانات البشرية القدرة على النسيان. لكن أستاذ علم الإنسان لا يكترث لعلم الأخلاق ودراسات الذاكرة. فكل ما يهمه، بعد مئة عام، أن أطفال غزة خلخلوا حدود المعرفة: فالوشم في كل الثقافات علامة بلوغ، ولكنه عند أطفال غزة علامة عدم بلوغ أي شيء. بعد مئة عام، سيقول أستاذ علم الإنسان لتلاميذه إن أطفال غزة كانوا يقرأون على جدران المدارس وزواريب المخيم عبارة غامضة، تقول: «احذروا الموت الطبيعي، ولا تموتوا إلا بين زخّات الرصاص» ينسبها أستاذ التربية الوطنية إلى روائي من عكا التي على البحر اسمه غسان كنفاني. وحين تحولت زخات الرصاص إلى زخات قنابل قادمة من «أعالي البحار» لإنقاذ إسبارطة الجديدة من العماليق القدامى، ازداد حذر الأطفال من الموت غير الطبيعي، ومن مجهولية الموت الذي بعد الموت. ازداد حذرهم من انعدام القبر والشاهدة، ومن انعدام القدرة على تذكُّر أسمائهم بين يدي الله الذي يتقن الغفران ولا يدركه النسيان. أخذوا حذرهم أكثر مما ينبغي، واحتاطوا للقادم الذي لا مفر منه، وحين أدركوا فداحة مأساتهم بأن لا جنازة ولا تلقين ولا قبر ولا شاهدة... كتبوا أسماءهم على سواعدهم وسيقانهم ليقرأ الله شاهدة القبر المفتوح من علٍ، قبر ابنه الإنسان... جسده المستباح. بعد مئة عام، سيقول أستاذ الأديان للتلاميذ: حينها، لم يلُمْ أحد أطفال غزة على سرقة شواهد قبورهم قبل الموت. كان شعارهم المقدس: من حُرم القبر، فليسرق الشاهدة. كل يد شاهدة. كل ساق شاهدة. كل جسد مقبرة.

بعد مئة عام، سيخبر أستاذ الأدب تلاميذه أن أستاذ اللغة العربية الطيب علَّم أطفال المخيم قصيدة من خارج المنهاج عن «خطبة الهندي الأحمر»


لن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، كيف خلقت أسطورة واقعها في برِّ غزة. لكن أستاذ الأدب يتجنب المقارنة حين يتعلق الأمر بالمعاناة والمحرقة. فأطفال غزة كتبوا أسماءهم بأنفسهم على أجسادهم، ولم يجبرهم أحد على كتابتها في معسكر إبادتهم المفتوح. بعد مئة عام، سيخبر أستاذ الأدب تلاميذه أن أستاذ اللغة العربية الطيب علَّم أطفال المخيم قصيدة من خارج المنهاج المدرسي عن «خطبة الهندي الأحمر» المنسوبة إلى شاعر من بروة الجليل قرب عكا التي على البحر اسمه محمود درويش. يقتبس الشاعر في أول القصيدة خاتمة خطبة سياتل، زعيم قبيلة دواميش التي على ضفة الأطلسي أمام الرجل الأبيض: «هل قلت موتى؟ لا موت هناك، بل تغيير عوالم». صدَّق الأطفال الهندي الأحمر وحلموا بعوالمه الأخرى التي لن يغزوها سيد البيْض. لكن الأطفال، الذين لا يعرفون الصحراء ولا يأمنون غدر الغيب، لم يحسنوا السير وراء السراب، ولم يثقوا إلا بالكتابة التي لا تفارق أجسادهم الظامئة في تيه سيناء المفتوح على الأبد. لم يكتبوا أسماءهم لوراثة أرض الكلام، ولا لامتلاك المعنى، بل لرشق عيون الكون ومكوِّنه ببحر من الحبر. كانوا صغاراً أبرياء يكتبون أسماءهم، ويحضنون أمهاتهم، إن لزم الأمر، قبل أن تبدأ الغارة وتنتهي بطرفة عين. أما الفدائيون القدامى، فلن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، كيف نسوا أسماء الأمهات على «كعب البارودة»... والذين يحفظون حداء «حين يصيح البروقي ما في عوقهِ، كلاشينكوفي يسابقني يطير من شوقي»، ولا يعرفون سياتل ولا درويش، ولا يعلمون أن من أدار ظهره للتاريخ سيدير له التاريخ ظهره، فلن يفهم أحد بعد مئة عام، كما لا يفهم أحد الآن، أين ذهبت بنادقهم حين بدأت الحرب وحين انتهت. وأما غزة التي في جنوب فلسطين، فلن يبتلعها البحر، وستنتصر.

* القدس، فلسطين المحتلة