الذي حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان اندلاعاً لحرب على الأراضي الفلسطينية المغتصبة عام 1948، وليكون بدايةً لتحرير المسجد الأقصى من الاقتحامات، ووجود الجيش الصهيوني، على أرضه وأبوابه، ومداخل باحاته، كما بداية لتحرير القدس والأراضي المحتلة عام 1967. ثم، انطلاقاً من هذين الهدفين، لتحرير فلسطين كل فلسطين، من النهر إلى البحر، ومن الناقورة إلى أم الرشراش.وما حدث من مواجهة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تلاه من أيام اشتبكت فيها قوات المقاومة التي أطلقها القائد الفذّ محمد ضيف وإخوانه ضد قوات النخبة في الجيش الصهيوني، والمتمثّلة في فرقة غزة، فضلاً عن تحرير المستوطنات في «غلاف غزة»، كل ذلك أكّد صحة إستراتيجية المقاومة، وما يمكن أن تصل إليه من مستوى قيادي، وقتالي، ووحدة مع قوات المقاومة، من «سرايا القدس» والفصائل الأخرى في قطاع غزة.
لقد تأكّد أن من الممكن للمقاومة إنزال هزائم عسكرية بآلاف الجنود وميليشيات المستوطنات، وصولاً إلى تحرير ما يقارب من 370 كيلومتراً مربعاً، وصلت إلى بُعد عشرة كيلومترات من الخليل.
هذا المشهد في أيام ثلاثة، أو أربعة، فاق كل توقّع، وكل تصوّر. وقد ترك أثراً زلزالياً في الجيش الصهيوني، وصولاً بارتداداته إلى واشنطن وعواصم الغرب. فهبّت، مفزوعة، هبّة رجل واحد لإنقاذ الكيان الصهيوني من «الانهيار العام». ولتسنده ليقف على رجليه المتداعيتيْن. الأمر الذي جعل أميركا تنتقل من الداعم، والحامي، للكيان الصهيوني، إلى المشارك المباشر في القتال اللاحق، لتلك الأيام المجيدة. بل هي مجيدة في تاريخ الجماهير العربية والإسلامية وأحرار العالم.
على أن الفصل الثاني من هذه الحرب، تمثّل في استعادة الجيش الصهيوني لغالبية «غلاف غزة» بعد أن انسحبت المقاومة، لتعزيز دفاعاتها في القطاع. ولتبدأ إستراتيجية قتال صهيونية أميركية (أرسلت حاملات طائرات مع آلاف الجنود إلى البحر المتوسط). وصدرت تصريحات تهدّد بإطلاق حرب برية، للقضاء على «حماس»، وطبعاً على حركة «الجهاد»، وفصائل المقاومة أيضاً، لكن مع تصريحات أخرى، تلوّح بتأجيل الهجوم البري، في ظل قصف جوي، على مدار الساعة، وفي تواصل دام أكثر من ثلاثة عشر يوماً ضد الأهالي وردم بيوتهم عليهم، وقد أسفر حتى الآن، عن قتل ما يزيد على ستة آلاف، وجرح عشرات الآلاف، وهدم أحياء بأسرها، وتشريد مئات الألوف.
إستراتيجية القصف الجوي، صُمّمت من خلال قيادة مشتركة صهيونية – أميركية، مستهدفة قتل المدنيين، وتهديم البيوت والأحياء مع سبق الإصرار والتصميم، وبانتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، وصولاً إلى سياسة الإبادة البشرية، وإنزال العقوبات الجماعية، والدوس على كل القِيَم الأخلاقية والقانونية والمبدئية المتعارف عليها في الحروب.
والغريب أن إدارة بايدن استطاعت، من جهة، أن تشرعن قصف المدنيين بالجملة وعلى أوسع نطاق، وطوال أيام متواصلة، مع تعويض ما ينضب من القذائف. واستطاعت، من جهة أخرى، أن تشرك أوروبا، بشكل أو آخر، لإسكات كل اعتراض يُوجّه إلى هذه «الحرب» القذرة (قصف المدنيين).
وبكلمة، إن الانتقام هو بعقوبات تقتيل جماعي، وقد شكّل، ويشكّل، جريمة إبادة وجريمة قتل جماعي للمدنيين العُزَّل، وبهذا تحوّل إلى الإستراتيجية الوحيدة، التي يعتمدها كل من بايدن ونتنياهو في قطاع غزة، بعد أن يئسا من الحرب البرية، وتأكّدا من خسارتها، إذا ما أقدما عليها، وكذلك يئسا من أيّ بديل عسكري جزئي، للحرب البرية.
أميركا وأوروبا، وكل الذين دافعوا وسوّغوا جرائم القصف الإسرائيلي، وبالطائرات والذخائر الأميركية، اختبؤوا خلف مقولة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع الالتزام بالقانون الإنساني الدولي». ولكن، وبلا جدال، سقط كل حديث أو التزام بالقانون الإنساني الدولي، فيما مضى القصف يقتل ويدمّر بالصورة والاعتراف العلني، مستهدفاً المدنيين مباشرة، كما ضرب عرضَ الحائط بأيّ مراعاة لقانون دولي أو قِيَم إنسانية. وبهذا سقط تبنّي تلك المقولة، وأصبح القصف الجوي عارياً مفضوحاً.
وكذلك الذين يحاولون تسويغ القصف الجوي الإجرامي، بحجة الرد على ما حدث في السابع من أكتوبر. فهذه حجة ساقطة قانوناً. لأنها لا تستطيع تسويغ قتل المدنيين، وانتهاك مبدأ التقيّد بالقانون الإنساني الدولي، ما يضع أولئك الذين يستخدمون هذه الحجة في موقع المدانين والمشاركين في جريمة القصف الجوي أيضاً.
لقد بلغ ارتكاب القصف الجوي الصهيوني – الأميركي على المدنيين مداه، دون توقف، وما زال الإصرار على استمراره، وتبنّي سياسة التقتيل والتدمير، بحق المدنيين في قطاع غزة، باعتباره الإستراتيجية الوحيدة المتبنّاة، عملياً، في الحرب المندلعة منذ السابع من أكتوبر، الأمر الذي يوجب اعتبار إستراتيجية القصف الجوي خارج سياق ما تسمح به الحروب.

خلاصة
إنّ القصف الصهيوني الأميركي ضد المدنيين في قطاع غزة حوّل الحرب إلى حرب إبادة تعدّت كل الحدود. وجعل مواجهتها، بكل السبل لوقفها، مسألة تهمّ العالم كله، وليس محور المقاومة، والشعوب العربية والإسلامية، وأحرار العالم، فقط. فالتمادي في القتل والتدمير والترويع في قطاع غزة، أصبح لا يطاق ولا يُحتمل بالنسبة إلى كل صاحب ضمير، ما يوجب أن تقف الإنسانية كلها ضده. وإذا لم يرتدع واستمر في الجريمة، حتى آخر الشوط، فلا بد من أن يُواجه بالقوة، لإنقاذ مليونين ونصف مليون من الشعب في قطاع غزة، من موت محقّق.
وبهذا يكون الوضع في المنطقة عندنا، وفي العالم، وصل إلى شفا تدخل عسكري، وانتفاض جماهيري عالمي، ضد القصف الإجرامي، الذي راح يتعدى كل احتمال لصبره، محتقراً كل توجه لعقلانية أو إنسانية. فكيف يمكن أن يُترك مئات الألوف من الأطفال والنساء والمدنيين، تحت رحمة قرار أميركي صهيوني بمواصلة القصف والقتل والتدمير؟
من ثم لا خيار في إيقاف جنون بايدن ونتنياهو، في سفك دم المدنيين، غير إجبارهما من خلال رأي عام عربي ودولي وعالمي وصولاً إلى استخدام القوّة إذا لم يرتدعا.
وبكلمة، لا شيء يسوّغ، ويوجب الدخول في حرب مثل إنقاذ المدنيين، من القصف الإجرامي الذي يشنّه الجيش الصهيوني، وبإسناد أميركي في قطاع غزة، ولا سيما بعد عدم سماعهما للضمير العالمي ورفضهما التقيّد بالقانون الإنساني في الحرب.
تبقى نقطة أساسية، وهي دور الدول العربية والإسلامية، على الخصوص، لأخذ موقف حاسم سياسي واقتصادي، من جريمة استمرار قتل المدنيين الغزيين، وهو موقف، إذا أُخذ بجدية، سيسهم في تجنب حرب لا بد منها. فالموقف الرسمي العربي عموماً، حتى الآن، هو دون المستوى، ولعب دوراً غير مباشر في تشجيع أميركا والكيان في تبنّي إستراتيجية القصف الإجرامي الوحشي ضد المدنيين.

* كاتب وسياسي فلسطيني