لم يَعُد تردّد رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في منْح الجيش الضوء الأخضر لاجتياح غزة برّاً، قابلاً للتأويل إلّا باعتباره سلوكاً «تشامبرلينياً»، وفق ما يعتقد الإسرائيليون. فهو، كلّما ركن إلى حسابات الربح والخسارة، في خضمّ حربٍ يطول أمدها، يَظهر غير قادرٍ على مواجهة "أعظم تحدٍّ في تاريخ إسرائيل". وفي هذا الإطار، اعتبر الصحافي والممثّل القانوني لمنظمة «إم ترتسو» اليمينية المتطرّفة، نداف هعتسني، أن «نتنياهو وأنصاره الذين اشتغلوا لإظهاره باعتباره ونستون تشرشل الحديث، يجدون أنفسهم أمام حقيقة لا لبس فيها، وهي أن التاريخ أَثبت بالفعل، وإلى الأبد، أنه ليس سوى نيفيل تشامبرلين الإسرائيلي»، لأنه يتصرّف تماماً كما تصرّف «رئيس وزراء بريطانيا، الذي وقّع اتفاق ميونخ. فقد خدع نفسه وأمّته، واستسلم، وأوصلَنا إلى ما نحن فيه». ولا يقف رئيس الحكومة على «خشبة الفشل» وحيداً، بل إلى جانبه أيضاً «كوكبة من معسكر الوسط - يسار، والجزء الأعظم من القيادة الأمنية الإسرائيلية من الجيل الأخير». مع ذلك، رأى هعتسني، في صحيفة «إسرائيل اليوم»، أنه «أُلقيت على كاهل نتنياهو مهمّة، حتى تشامبرلين الأصلي لم يضطرّ للتعامل معها، وهي إخراجنا من الحفرة التي أَسقطنا فيها هو وشركاؤه»، مذكّراً بأن تشامبرلين نفسه، استقال، وأخلى منصبه في أيار من عام 1940، مع بدء الحرب ضدّ بريطانيا، ولكنّ البريطانيين «حظوا بونستون تشرشل الذي قاد المهمّة الملحمية التي مثلت أمامه. أمّا نحن، فمنظومتنا السياسية، تفتقر حتى إلى غبار تشرشل، فيما جميع أعضاء كابينت الحرب يتشاركون المفهوم نفسه الذي تسبّب في الكارثة التي لحقت بنا». ويورد الكاتب جملة من المؤشّرات الدالّة على التشامبرلينية السياسية، والتي ترافق ظهورها مع بدء الإعداد للهجوم البرّي، وعلى رأسها «موقف الجنرال في الاحتياط، ومفوّض شكاوى الجيش السابق، يتسحاق بريك، الذي التقاه نتنياهو مرّتَين منذ بدء الحرب، وجرى تجاهل تحذيراته السابقة من عدم جهوزية الجيش للحرب البرّية»، إضافة إلى «استقبال نتنياهو الرئيس الأميركي، جو بايدن، والردّ على صفقات الابتزاز التي يقدّمها لنا العدو (حماس)»، وصولاً إلى «التسريب الفاضح الذي كشفه عضو كابينت الحرب، أرييه جرعي، حول عدم امتلاك المجلس الوزاري خططاً واضحة لتفكيك حماس (أو القضاء عليها)». وعلى رغم أن هعتسني لم يُشكّك في أنه «في ضوء نقص الجهوزية العظيم في المنظومة الحربية، يتطلّب التجهيز حوالي أسبوعين»، من طريق إعداد خطط هجوم جديدة، وإصدار مجموعة من الأوامر، وتدريب وتجهيز الوحدات التي قُلّصت وفُكّكت منذ سنوات، بناءً على تصوّرات عسكرية معيّنة، إلّا أنه يحذّر من أنه «من الآن فصاعداً، فإن كلّ يوم يمرّ هو ضدّنا، إذ يسحق الشرعية الدولية، ويفرض عبئاً هائلاً على المجتمع والاقتصاد، ويؤدي، مع وجود هذا العدد الكبير من النازحين والمجنّدين، إلى تآكل عزم الرأي العام الإسرائيلي على المضيّ قدماً».
ومع أنه «ليس هناك شكّ في أن المعركة في ظلّ الأنفاق لن تكون سهلة»، لكن «لدى الجيش الإسرائيلي ميزة هائلة، في القوّة العسكرية والموارد، وأيضاً في الروح القتالية ونوعية المقاتلين»، ثمّ إن «التاريخ مليء بأمثلة من التحديات الجسيمة التي تم التغلّب عليها نتيجة لروح المبادرة والكفاح»، كما يقول. وفي هذا الإطار، يستحضر هعتسني عدّة أمثلة، في مقدّمها أنه «لم تكن لدى تشرشل إجابات جاهزة على الحرب الألمانية الخاطفة، ولم يكن لدى الجيش الإسرائيلي في بداية حرب الاستقلال (النكبة الفلسطينية) أيّ خطط أو وسائل للتعامل مع الهجوم العربي... وعموماً، فإن التحذيرات التي تُثار (هذه الأيام)، تذكّرنا بما جرى عشيّة حملة السور الواقي عام 2002، عندما حذّرونا من الفخاخ والكمائن التي تنتظرنا في مخيمات اللاجئين».
إذا لم تنتهِ الحرب على غزة بـ«هزيمة واضحة وساحقة، فإن الجبهات الأخرى ستفهم بالضبط ما هي الطريقة المطلوبة لهزيمة إسرائيل»


على أيّ حال، «سنعرف، في غضون أيام قليلة، ما إذا كانت القيادة الحالية مستعدّة للتعامل مع الوضع الدراماتيكي، وما إذا كانت ستعطي الأمر بالتقدُّم والتحرّك (نحو الحرب البرّية)». وإذا كان الجواب "لا"، فإن «على قادة الائتلاف سحب زمام المبادرة من أيدي نتنياهو» وفق ما يطرح الكاتب، مقترحاً «تشكيل طاقم حرب جديد، ربّما يضمّ (وزير الأمن الحالي، يوآف) غالانت، و(رئيس الشاباك سابقاً، آفي) ديختر، (وأعضاء الليكود) أدلشتين، كيش وبركات، بالإضافة إلى مسؤولين رأوا الواقع الذي نحن فيه، من مِثل أفيغدور ليبرمان، وجدعون ساعر، وربّما تعزيزات من خارج "الكنيست"، وكلّ ذلك من أجل القيادة بروح تشرشل، من دون تردّد أو عجز على طريقة تشامبرلين وشركائه».
من جهته، يشدّد المحلّل العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، يوسي يهوشواع، على «أهميّة وضع توقّعات متّسقة بين القيادتَين السياسية والعسكرية، وبين الجمهور الإسرائيلي»، وذلك مردّه إلى أن ثمّة «إدراكاً لحقيقة أن الدخول إلى غزة، حتى لو رافقته مساعدة جوية ومدفعية غير مسبوقة، سيفضي إلى أثمان جسمية على المستويَين الجسدي والنفسي (الإسرائيلي)»، وأن «التجنيد الكثيف وغير المسبوق تاريخيّاً للاحتياط، سيؤدّي إلى هزّات ارتدادية هائلة ستصيب الاقتصاد الإسرائيلي». وعليه، يتعيّن، بحسب يهوشواع، «إلى جانب التعامل البديهي مع الساعتَين العسكرية والسياسية، البدء بالحديث عن الساعة الاقتصادية أيضاً»، منبّهاً إلى أنه مع «كلّ يوم يمرّ من دون أن يبدأ الجيش بالتحرّك، يتآكل الإجماع حول الحاجة المُلحّة إلى جعل حماس تندم على اليوم الذي قرّرت فيه تنفيذ» عمليتها.
وفي الاتجاه نفسه، يعتقد المحلّل العسكري لصحيفة «معاريف»، طال ليف-رام، أن إطالة أمد الحرب لن تكون في مصلحة إسرائيل. لكنه يجزم بأن «القرار بتنفيذ عملية برّية في غزة قد حُسم»، عازياً التأخير في التنفيذ إلى نقاشات جارية حول الخطط الميدانية التي ثمّة «مواقف مختلفة حولها». ويستعيد نائب رئيس التحرير في موقع «واللا»، أرئيل شميدبيرغ، وهو أيضاً عضو في لجنة خاصة في الجيش مسؤولة عن صياغة الخطابات التي تُبلّغ من خلالها العائلات اليهودية بمقتل أبنائها الجنود، بدوره، انشغال النخب العسكرية في هيئة الأركان، بقيادة أفيف كوخافي، في نيسان من عام 2019، بـ«بورشة النصر» التي امتدّت في حينه على مدى أربعة أيام، ونوقش فيها «مفهوم النصر». وبحسب شميدبيرغ، فإن «الأدب العسكري يميّز بوضوح بين نوعين من النصر: النصر الموضوعي، والنصر الذاتي»: الأول «يُبنى (عمليّاً) على حقائق موضوعية غير قابلة للتأويل - هزيمة واضحة للعدو - مثلما تحقّق في حرب الأيام الستة (النكسة)»؛ أمّا الثاني، وهو ما تبنّاه كوخافي، «فينبع من قناعة ذاتية وشعور ذاتي بأنّنا استعدنا الهدوء والردع». ويتساءل «أيبدو هذا مألوفاً؟ نعم، هذا ما سوّقه المستويان العسكري والسياسي للجمهور الإسرائيلي عقب حملات "عمود السحاب"، "الرصاص المصبوب"، و"الجرف الصامد"». ويتابع: «في هذه الأيام، عندما يُسأل قادة المستويَين السياسي والعسكري عمّا إذا كان الجيش مستعدّاً لمناورة برية واسعة، ولمواجهة حرب متعدّدة الجبهات، يجيبون من دون تردّد: "جاهزون!"، وأن الأفضلية بديهيّاً هي للتركيز حصراً على الجنوب وتوجيه الاهتمام الكامل إليه، وسط تقديرات بأن حزب الله لديه الكثير ليخسره، وأن الأمين العام للحزب، حسن نصرالله، لن يتعجّل الدخول في الوحل». أمّا أصحاب هذه التقديرات، «فهم أنفسهم القادة الذين كانوا على قناعة، قبل حوالي ثلاثة أسابيع، بأن حماس مرتدعة».
وبالنسبة إلى الداعين إلى المبادرة إلى عمل عسكري ضدّ "حزب الله"، فهم «يدركون جيداً أنه بعد المذابح في بئيري ونير عوز، سيأتي دور مستوطني المطلة وكريات شمونة، والأمر مسألة وقتٍ فحسب»، كما يقول شميدبيرغ. ولذا، فهو يقترح «أن يكون المسار الذي تسلكه إسرائيل في كلّ جبهة، مُعدّاً لصدمة العدو؛ إذ ليس في الإمكان الاكتفاء بمهمّة منقوصة، وإلّا فإن جميع المستوطنات الواقعة في خطوط التماس، ستتحوّل إلى مدن أشباح، ويتحوّل قاطنوها إلى لاجئين في بلدهم»، مضيفاً أنه «على مدى سنوات طويلة، توجّس نتنياهو من استخدام القوّة المفرطة بشكل يعرّض حياة الناس للخطر بشكل كبير». ولكن هذه المرّة، «وفي ضوء الفظائع التي ارتكبتها حماس في يوم السبت الأسود، لم يَعُد أمام رئيس الحكومة خيار آخر»، خصوصاً أنه «بعد تعافي الجمهور من الضرر الجسيم الذي لحق بالثقة في الجيش، فإنه يمنح القادة الدعم الكامل، ويطالب بهزيمة واضحة». ويرى أن «الحرب الراهنة قد لا تكون حرباً وجودية، ولكنّ تأثيراتها ذات عواقب وجودية على دولة إسرائيل»، مستنتجاً من ذلك أنه إذا لم تنتهِ الحرب على غزة بـ«هزيمة واضحة وساحقة، وبنتيجة دراماتيكية على المستويَين العسكري و/ أو السياسي غير قابلة للتأويل، فإن الجبهات الأخرى ستفهم بالضبط ما هي الطريقة المطلوبة لهزيمة إسرائيل»، وعندئذٍ «لن ينفعنا شيء، لا الأميركيون، ولا الفرنسيون، ولا البريطانيون، ولا القوات الاحتياطية»، وفق ما يختم به شميدبيرغ حديثه.