نخوض كشعب فلسطيني معركتنا مع الاحتلال منذ استعمار أرضنا الفلسطينية، فلم نستسلم ولم نسلّم إلا في محطات صغيرة، لم يقبل بها الاحتلال، حتى بتلك التنازلات الكبيرة التي قدمتها القيادة الفلسطينية، وأقصد «أوسلو»، وكان يريد منا المزيد. وهذا المزيد هو «تطهير» فلسطين بالكامل من عربها. وليس هذا الرأي وليد أفكاري أو انطباعاتي، بل هو ما صرّح به الصهاينة أكثر من مرة، وخططوا له، فهذه «الفكرة قديمة قدم المستوطنات الصهيونية الأولى في فلسطين ونشوء الصهيونية السياسية» كما يقول الباحث والأكاديمي الفلسطيني نور مصالحة في كتابه «طرد الفلسطينيين: مفهوم «الترانسفير» في الفكر والتخطيط الصهيونيين 1882 ـ 1948« الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1992.نرى اليوم على شاشات التلفزة، عملية «الإبادة» لأهالي قطاع غزة، وهي النكبة بأثر رجعي، وهي حسب تعبير بعض المعلّقين الإسرائيليين استكمال لحرب «الاستقلال» عام 1948. هذا المشروع الاقتلاعي للسكان الأصلانيين من أرضهم، لم يبدأ بسبب العملية يوم السبت 7 أكتوبر، بدأ فعلياً منذ فكر أول صهيوني بأن تكون «إسرائيل» في فلسطين، فقد فكر أيضاً بعملية «المحو» لفلسطين من الأرض.
لكن يوم 7 أكتوبر هو اليوم الذي شرّعت فيه إسرائيل أبواب أمانيها وأحلامها، وأنزلتها إلى الواقع، وبدأت التنفيذ بالقتل والقصف والتدمير، تماماً كما فعلت حين كانت عصابات قبل 75 عاماً مدعومة من بريطانيا بالمباشر ومن دول الغرب الاستعمارية أيضاً، واليوم تلقّى الدعم ذاته، فهذا الغرب الذي أوجدها كمستعمرة له، يريدها أن تبقى أداة استعمارية ناجعة في حماية مصالحه والذود عنها، فلذلك سارعت قوى العالم الغربي إلى القدوم بحراً وبراً وجواً.
أمّا فلسطين، فقدّمت هذه العملية التي لاقت مباركة شعبية كبيرة في أكثر من مكان في العالم، ورسمية من بعض الدول، لكن بعد انتهاء النشوة، عادت الفكرة، وعادت الوصايات والوصايا لتدلي بدلوها، وتلقي بوعظها، وتستثمر بالذي جرى، ولن نعلم عن الطبخة والطباخين إلا بعد حين، بعد أن «تعض» الطيارات ما في فلسطين والفلسطينيين من وجع، فتقتل الذي تقتله، وتجرح الذي تجرحه، وتهجّر ربما الذي تهجّره.
هذه البداية المتشائمة، لا تحاول النظر إلى الأمور من زاوية الفعل المقاوم كعمل عسكري قادر على كسر العنجهية الإسرائيلية، فهذه قائمة وهي التي أدّت، عبر عقود من المواجهة الفلسطينية للمشروع الإسرائيلي، إلى أن يبقى الشعب الفلسطيني شعباً. لكن هذه المقالة، ستحاول النظر إلى السياسة قليلاً، إلى الاستثمار في الفعل المقاوم، وسأتطرق إلى بعض الأفكار من خلال أسئلة وهواجس تدور في رأسي منذ أيام.
منذ بدء العدوان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وبالتزامن في الضفة الغربية، والتضييق إلى حدّ الخنق التام في الأراضي المحتلة عام 1948، تقريباً لم نسمع عن موقف سياسي فلسطيني وازن عدا الكلام المعتاد، ولست أعني السلطة الفلسطينية فقط، بل حتى المقاومة. فكل خطابات رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» منذ 7 تشرين الأول الجاري، لم تتحدّث تقريباً في السياسة، ولم تقدّم مؤشرات أو احتمالات أو حتى سيناريوات، ومفهومة هذه اللهجة بالخطاب أثناء المعركة، لكن المناورة السياسية مطلوبة، دعماً للميدان، وذوداً عنه من ناحية أخرى، وكذلك في خطاب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة.
وليس في الكلام السابق محاولة للنقد، بل محاولة للفهم، فظهور المتحدث باسم كتائب القسام أبو عبيدة والمتحدث باسم سرايا القدس أبو حمزة، ظهور مهم، ويقدّم مؤشرات في السياسة وأخرى في الميدان. لكننا نحن الذين نقع أحياناً في موقع المراقبين، لا نلاحظ حراكاً سياسياً فلسطينياً يبني على الشيء مقتضاه، على العكس من ذلك، نرى أخباراً تقول إن الدولة الفلانية تتواصل مع «حماس»، ونراها تصل إلى اتفاق ما، كأخبار الإفراج عن الأسيرات الإسرائيليات الأربع الذي رعته قطر على مرحلتين، بسبب قرب قيادات في حركة «حماس» منها. وفي الاتجاه ذاته، سمعنا التصريحات المصرية والأردنية والجهد العربي ككل على الصعيد السياسي، وكذلك إيران التي تصرّح سياسياً وترفع سقف التصريحات، من دون إيضاح عن أفق تلك التصريحات وتصريفها العملي على الأرض، وتركيا التي قالت البارحة على لسان رئيسها رجيب طيب إردوغان إنها ستستمر في العمل لعقد مؤتمر سلام فلسطيني إسرائيلي بحضور جميع الدول الفاعلة في المنطقة، مشيراً إلى أن تركيا مستعدة لأن تكون ضامناً للطرف الفلسطيني.
تلك الدول، على أهميتها، تصرّح وتقدّم مقولاتها، وهذا طبيعي في مثل هذا العدوان الذي يشن جغرافياً على قطاع غزة، لكنه فعلياً يشن على كل القضية الفلسطينية لإبادتها كما يباد الشعب الفلسطيني على مرأى العالم. لكن في كل هذا، أين السياسة في قوة المقاومة الآن؟ وأيضاً هل نحن الآن أمام معادلة سياسية فلسطينية جديدة، لم ننتبه إليها. فالذي يقود الميدان والذي بادر هي حركة «حماس»، وإسرائيل والغرب الذي يعمل اليوم على وسمها بـ«داعش» ما يريحه في إدارة وإعلان الحرب عليها، هذا الغرب لن يقبل بمحادثة «حماس»، إلا إذا حققت نصراً كبيراً يجبر الجميع على الانكسار والتواضع، والقبول بالوقائع الجديدة. ومع تقدير الموقف الذي يقول إن المقاومة منتصرة حتى الآن في الميدان، إلا أن عملية أخرى تديرها إسرائيل برعاية غربية كاملة، وهي عملية الإبادة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وباقي فلسطين لاحقاً لو نجحت في غزة الآن.
مفهومة هذه اللهجة بالخطاب أثناء المعركة، لكن المناورة السياسية مطلوبة، دعماً للميدان، وذوداً عنه من ناحية أخرى


إذاً، السؤال من يدير العملية السياسية في أثناء المعركة، وبعدها، السلطة الفلسطينية هي «الشرعية» أمام المجتمع الدولي، لكن هل تقبل «حماس» والمقاومة أن تخوّل السلطة إدارة هذه المعركة السياسية، ولا سيما أن رئيس السلطة محمود عباس استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الثلاثاء في مقر المقاطعة برام الله، وقال في اللقاء إن «حماس» إرهابية، وإنها «لا تمثل الشعب الفلسطيني»، وأكد أيضاً أن مستقبل الفلسطينيين يرتبط بمكافحة «للإرهاب لا هوادة فيها ولا لبس»، وكل إشارات ماكرون المباشرة وغير المباشرة تشير إلى المقاومة الفلسطينية. وكان ماكرون في اليوم ذاته قد عقد مؤتمراً صحافياً في تل أبيب مع نتنياهو، دعا فيه إلى توسيع التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» ليشمل مواجهة «حماس». كل هذه التصريحات لم تلقَ اعتراضاً من عباس، ولا حتى رداً، بل استقبالاً. فبعد هذا، هل يمكن أن تقدّم المقاومة الفلسطينية للسلطة هذه المكرمة، بأن تفاوض عنها، أو أن تصل معها إلى تفاهمات. لا أظن ذلك، لأن الأمر يبدو غير منطقي وفيه تسليم لنهج يناقض تماماً نهج المقاومة.
إذاً، إلى أين سنذهب في السياسة، من سيتحدّث باسم الفلسطينيين بعد هذه الحرب؟ قطر، تركيا، إيران، مصر؟ ليست لديّ إجابة، لكن ثمّة احتمال أرجّحه وأفضّله، وهو أن رجالنا الأشداء الرشداء الذين يمثلون وحدة الشعب والموقف الفلسطيني، في السجون، أسرى لدى الاحتلال، هؤلاء لديهم الحكمة والبصيرة، وهم أسياد قرارهم وموقفهم السياسي، موحّدون في السجن والموقف والقرار، لا تفرّقهم سياسة ولا إيديولوجية، تجمعهم قضيتهم وجدران السجن، والمقاومة، لذا يمكن لقيادة المقاومة أن تتشارك معهم، وتمنحهم هذا الدور الذي من ضمنه قرار حريتهم وحريتنا ونصرنا.
* كاتب فلسطيني