في وقت تتضارب فيه المعلومات حول الخطط الإسرائيلية «المفترَضة» لبدء اجتياح برّي لغزة، بدأت بعض الأقلام تَطرح تصوّراتها لمسار تلك «الخطط» العسكرية، والنتائج السياسية «المنشودة» المترتّبة عليها. وفيما يكاد يغلب على عيّنة من هذه الآراء، الطابع «التوجيهي»، أو «الإرشادي»، حول الممارسة «المُثلى» من جانب إسرائيل لما يسمّيه هؤلاء «حقّ الدفاع عن النفس»، وما يَعتبرونه ردّاً عسكرياً «يمكن تفهّمه» إزاء ما حصل في السابع من تشرين الأول الجاري، إبّان عملية «طوفان الأقصى»، والتي يُصرّون على أنه «لا يمكن تبريرها»، إلا أن العيّنة المذكورة تتقاطع عند ضرورة استرشاد إسرائيل، ومن خلفها حليفتها الولايات المتحدة، بـ»أفق سياسي» معيّن قبل السير في أيّ عملية عسكرية في قطاع غزة.هي ضرورات إستراتيجية، لا أبعاد قانونية وأخلاقية، ما يَطرحه مدير «معهد كرانيغي ميلون» المتخصّص في شؤون التكنولوجيا والإستراتيجيا، أودري كونين، الذي يحذّر تل أبيب من مغبّة المغالاة في ردود أفعالها العسكرية، معتبراً أن انسياقها خلف مشاعر الغضب ودافع الانتقام، سيخدم إستراتيجية حركة «حماس»، القائمة على عنصرَي «استفزاز إسرائيل»، و»تعبئة المؤيّدين والمناصرين» في داخل فلسطين، وكلّ أرجاء المنطقة والعالم، سواء من قِبَل أفراد وناشطين «معادين للسامية»، أو من جانب دول وجماعات متحالفة مع حركة المقاومة الفلسطينية، في طليعتها إيران، و»حزب الله». ويعلّل الباحث تحذيراته بالقول إن التدخلات العسكرية الأميركية في أفغانستان، ومن ثمّ في العراق، تركت أثراً عميقاً في السياسة الخارجية الأميركية على المستوى الدولي، في إشارة إلى تآكل النفوذ الدولي لواشنطن عقب هاتَين الحربَين. ويضيف أن «الولايات المتحدة تعلّمت، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كيف يمكن لردّ فعل أيّ حكومة إزاء هجوم إرهابي تعرّضت له، أن يحدّد مسارها لعقود».
وفي السياق ذاته، يستعرض الكاتب تجربة الحملتَين العسكريتَين اللتَين خاضتهما موسكو لمكافحة التمرّد في الشيشان، ملمّحاً إلى أن الحسم العسكري هناك لم ينجح في توفير الاستقرار بصورة نهائية وحاسمة للجمهورية المنضوية في إطار «روسيا الاتحادية». وفي معرض دعوته إسرائيل إلى التركيز على ضرْب «حماس»، عوض استهداف المدنيين، وتشديده على أن «ممارسة القتل من دون تمييز يُذكر، أو حدّ أدنى من ضبط النفس، من شأنها أن تترك (مشاعر) الغضب، تسمو فوق (حسابات) المنطق»، يستحضر حملة قمع أمنية وعسكرية دشّنتها حكومة سريلانكا في عام 2009، ضدّ متمرّدي «نمور التاميل»، من دون مراعاة أهميّة تحييد العناصر المدنيين غير المسلّحين عن المجتمع، ما ولّد ارتدادات عكسية أفضت إلى حرب أهلية لاحقاً. ويستخفّ الباحث بصورة ضمنية بتصريحات وزير أمن إسرائيل، يوآف غالانت، بـ»محو حماس من على وجه الأرض»، وتهديدات الناطق باسم وزارة خارجيتها، إيمانويل ناحشون، بإلحاق «هزيمة قاطعة ونهائية بالعدو مهما كان الثمن»، من خلال قوله إن «الأمل، ليس بإستراتيجية، وكذلك الغضب أيضاً». ويضيف الكاتب أن التاريخ المعاصر لعمليات مكافحة «الإرهاب»، يُقدّم لنا درساً واضحاً مفاده أن «السبيل الوحيد أمام أيّ حكومة ترمي إلى القضاء على منظمة إرهابية ما، من دون المخاطرة بتصعيد الصراع أو توسعته إقليمياً، يكون من خلال الاستهداف الدقيق، لتلك المنظّمة»، متابعاً أن «على إسرائيل، وفي موازاة أسلوب عملها التقليدي المعتاد من خلال الغارات الجوية، إضافةً إلى استهداف قيادات (المقاومة الفلسطينية)، ونشر قوات عسكرية، أن تعمَد إلى حماية المدنيين الأبرياء، بمن فيهم الرهائن الإسرائيليون».
مع ذلك، يقرّ الكاتب بأن مخاوفه في شأن تبعات الإستراتيجية الإسرائيلية المتّبعة في غزة، «لا تتعلّق بأبعاد أخلاقية وقانونية بحتٍ، بقدْر ما تتّصل بضرورات إستراتيجية»، منبهاً إلى أن البديل من اتّباع ذلك النهج، والإصرار على «خيار قمع حماس»، سيكون» الفشل»، وعودة ما يسمّيه «الطرف المعتدَى عليه إلى الظهور» مرّة أخرى على مسرح الأحداث مدفوعاً بحصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي. أيضاً، يعرب الكاتب عن قناعته بأن الخيار المشار إليه «يَملك حظوظاً دنيا» ضمن قائمة خيارات إستراتيجية ضيّقة متاحة أمام إسرائيل لمواجهة «حماس»، وسط إغلاق المعابر، بخاصّة معبر رفح مع مصر، واستمرار سياسة الحصار، إضافةً إلى مواصلة حملة قصف عشوائي ضدّ المدنيين، فضلاً عن وقوع القطاع تحت أزمة إنسانية خانقة، تُسهم بشكل أو بآخر، شأنها شأن الخطاب الإسرائيلي الذي ينزع عن الفلسطينيين صفتهم الإنسانية، في تعزيز «إستراتيجية الاستفزاز والتحريض (الإعلامي)» التي تتّبعها «حماس»، وفق تعبيره. ويدعو الكاتب إلى مراعاة هواجس الدول العربية حيال «عملية السلام» ربطاً بمهمّة ردع إيران، وإعطاء السلطة الفلسطينية حوافز معيّنة لتحييدها عمّا يجري في غزة. ويحذّر من أن «التغوّل العسكري المبالغ فيه في غزة، قد يرتدّ سلباً على إسرائيل، على نحو قد يسفر عن تحشيد المزيد من الدعم لتيار المقاومة ضدّها، ولا سيما في أوساط القوى المعادية لها».
الإستراتيجية الإسرائيلية مشوبة بعيوب، سواء من حيث الأهداف المنشودة أو حتى الوسائل


التطبيع لا يزال ممكناً!
وفي الاتجاه نفسه، يذهب رئيس «مجلس العلاقات الخارجية»، والدبلوماسي الأميركي المخضرم، ريتشارد هاس؛ إذ يستهلّ مقالته الأخيرة في مجلة «فورين أفيرز»، بالسؤال الآتي: «بماذا يدين الحلفاء بعضُهم لبعض؟»، قبل أن يتبعه بالإجابة بأن «النصيحة الجيّدة، وإن كانت على قدْر من القسوة، هي ما يدين به الأصدقاء بعضُهم لبعض». وفي إشارة إلى وجود تباينات في الآراء والمصالح بين واشنطن وحلفائها في تل أبيب، يرى أن «الغزو الإسرائيلي لغزة، والسياسات الإسرائيلية الطويلة المدى التي لا تعطي أيّ أمل للفلسطينيين الذين يرفضون العنف، لا يخدمان المصالح الأميركية في الشرق الأوسط وخارجه». وعلى رغم إقراره بصعوبة إطلاق مفاوضات سياسية ناجحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، عقب تفجّر الأوضاع على غزة، ينبّه هاس إلى أن «البديل، والمتمثّل في اندلاع حرب أوسع نطاقاً واستمرار الوضع الراهن، غير القابل للاستمرار إلى أجل غير مسمّى، سيكون أكثر صعوبة وخطورة».
ويعتقد أن «الإستراتيجية الإسرائيلية مشوبة بعيوب، سواء من حيث الأهداف المنشودة أو حتى الوسائل»، مذكّراً بأن «حماس هي حركة أيديولوجية بقدْر ما هي منظّمة، بحيث يمكن (إسرائيل) قتْل قيادتها، لكن كيان الحركة ككلّ سيبقى حياً»، في إشارة إلى الامتداد الاجتماعي والثقافي للحركة في المجتمع الفلسطيني. ويسهب هاس في شرح خلفيّات اعتراضه على الإستراتيجية الإسرائيلية، ومن ضمنها إمكانية وقوع مواجهة إقليمية، مستنتجاً بأن «تكاليف الغزو البري لغزة ستفوق أيّ فوائد مترتّبة عليه»، مع تشكيكه في إمكانية تحقيق الأهداف العسكرية المعلنة من قِبَل القادة الإسرائيليين، والمتّصلة بالقضاء على حركة «حماس»، وذلك بالنظر إلى نجاح الأخيرة في إنشاء بنية تحتية عسكرية راسخة في مختلف مناطق القطاع، ما يجعل تدميرها يتطلّب شنّ عملية عسكرية واسعة النطاق في منطقة مكتظّة سكانيّاً، وهو الأمر الذي قد يجرّ معه سقوط ضحايا مدنيين فلسطينيين، بصورة تعزّز موقف «حماس»، من ناحية، وتجربةً عسكرية إسرائيلية شبيهة بتجربة الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، من ناحية ثانية. كما يحذّر من التبعات الإقليمية والدولية السلبية للجوء إسرائيل إلى «القوة المفرطة» في عملياتها العسكرية ضدّ الفلسطينيين، سواء على مستوى تصاعد الاحتجاج الدولي ضدّ إسرائيل، وتضرّر مسار التطبيع بين تل أبيب وعدد من العواصم العربية، أو على مستوى احتمال تدحرج الأمور نحو حرب إقليمية بين إسرائيل، والحلف الإقليمي المدعوم من إيران. أمّا على المستوى الفلسطيني، فيحذّر هاس من ملامح مشهد ما بعد حرب غزة، مبيّناً أنّه، حتى في حال القضاء على حركة «حماس»، فإن السلطة الفلسطينية لا تمتلك القدرات، أو الشرعية اللازمة، لتسلّم مقاليد الأمور في القطاع، في حين أنّه لا توجد أيّ دولة عربية، (وفي طليعتها مصر)، تبدي استعدادها للتدخّل في غزة أو تحمُّل مسؤولية إدارتها، ما قد يعيد القطاع إلى واقع عام 2005، وتحديداً بعد الانسحاب الإسرائيلي من هناك.
ويرى هاس أن «إدارة بايدن محقّة في دعمها حقّ إسرائيل في الانتقام، لكن لا يزال يتعيّن عليها أن تحاول بلورة شكل هذا الانتقام»، معتبراً أن «الولايات المتحدة لا تستطيع إجبار إسرائيل على التخلّي عن القيام بغزو بري واسع النطاق لغزة، أو تحديد نطاقاته، في حال قرّرت السير فيه»، مستدركاً بأنه «يمكن صنّاع القرار الأميركيين أن يحاولوا ذلك، بل ويتوجّب عليهم ذلك، بما يشمل القيام بخطوات لتقليل فرص اتّساع نطاق الحرب... وممارسة ضغوط على نظرائهم الإسرائيليين لحمْلهم على طرح مسار سلمي قابل للحياة بالنسبة إلى الفلسطينيين، وذلك لإقامة دولتهم المستقلّة». وضمن الاتجاه نفسه، يعتبر أن «على الولايات المتحدة ممارسة ضغوط، في السرّ والعلن، على إسرائيل، بغية توجيه سياسة الأخيرة حول بناء سياق (سياسي) يفسح المجال أمام ظهور شريك فلسطيني فاعل مع مرور الوقت».
وبالنسبة إلى دور الدول العربية في دفع ما يمكن وصفه بـ»المسار الفلسطيني - الإسرائيلي»، فيقترح هاس أن تعمد تلك الدول إلى الاضطلاع بدور «تسهيل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، بما يعنيه ذلك من إشارات إلى إسرائيل بأن التطبيع يمكن أن يستمرّ بعد انتهاء الحرب، إذا ما تبيّن أنها تصرّفت بمسؤولية» حيال غزة. وفي مقالته التي حملت عنوان: «كيف يمكن إسرائيل أن تكسب (الحرب)؟»، يشدّد هاس على أن «هزيمة حماس ستتطلّب إستراتيجية تتجاوز عامل الانتقام».