لندن | أَنفق زعماء الاتحاد الأوروبي خمس ساعات كاملة من وقت قمّتهم المنعقدة في بروكسل (الخميس والجمعة)، في نقاش "بيزنطيّ" حول اختيار الكلمات التي ينبغي استعمالها للتعبير عن الموقف من الحرب على غزة، وذلك بعدما تعدّدت وجهات النظر، وتمسّك بعض الأطراف بمواقف مرتبطة بحسابات داخلية. على أن الدخان الأبيض ما لبث أن تصاعد من مقرّ الاتحاد، مع إتمام التوافق على حلّ وسط يتضمّن الدعوة إلى "وقفات إنسانية" للأعمال القتالية، والعمل على تنشيط الفكرة القديمة المتمثّلة في "حلّ الدّولتين". توافقٌ لم ينسحب على قضايا أخرى شائكة نظرتر فيها القمّة، ولا سيما بعدما تحفّظت كلّ من المجر وسلوفاكيا على الاستمرار في مدّ النظام الأوكراني بالسلاح، أو فرض عقوبات جديدة على روسيا
أخيراً، نجح الزعماء الأوروبيون الذين عقدوا قمتهم في مقرّ الاتحاد الأوروبي، في بروكسل، يومَي الخميس والجمعة، في التوصّل إلى حلّ وسط حول الصيغة التي سيتضمّنها الإعلان الرسمي للقمّة، في شأن الحرب على غزة. وبحسب النصّ الذي ظلّ موضع أخذٍ وردّ، لنحو خمس ساعات، خلص قادة الدول الـ 27 الأعضاء في التكتُّل، إلى تكرار دعمهم "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، ودعوا، في الموازاة، إلى "وقفات إنسانية" للأعمال القتالية، تسمح بوصول الغذاء والماء والإمدادات الطبية إلى الفلسطينيين المحاصَرين في القطاع، عبر "ممرّات إنسانية". وتمّ التوصّل إلى هذه الصيغة في وقت متأخّر من مساء الخميس، بعد جدل استمرّ طويلاً حول كلمة "وقفة إنسانية"، مقابل "وقفات إنسانية"، خشيةَ أن تُفهم فكرة الوقفة الإنسانية، على أنّها دعوة إلى وقف إطلاق النار، وهو أمر من شأنه أن يُغضب الإسرائيليين، ما استدعى استخدام تعبير "الوقفات" المتكرّرة لتجنّب "سوء التفسير". واضطرّ الزعماء أيضاً إلى تقديم تنازل لإسبانيا، التي أرادت استخدام تعبير "وقف إطلاق النار"، وذلك عبر الموافقة على تضمين الإعلان الرسمي للقمّة، دعْم الاتحاد الأوروبي فكرة عقْد "مؤتمر سلام" حول سبل تبنّي "حلّ الدولتين"، كحلّ نهائي للقضية الفلسطينية، كما تأكيد المجتمعين أهمية "ضمان حماية أرواح جميع المدنيين، في جميع الأوقات، بما يتماشى مع القانون الإنساني الدولي".
وعلى رغم انعدام القيمة العمليّة لهذه الدعوات، التي سارع الجانب الإسرائيلي - على لسان بيني غانتس، عضو مجلس الحرب الإسرائيلي المصغّر - إلى التقليل من أهميّتها، والتأكيد أن الدولة العبرية "ستّتخذ قراراتها الخاصّة في شأن خططها الحربية في غزة، فقط بناءً على ما تقتضيه مصالحها"، فإن التوصّل إلى هذا الحلّ الأوروبي الوسط، جاء بعد أيام من المشاحنات الحادّة بين حلفاء إسرائيل الأوفياء في الاتحاد - ولا سيما ألمانيا والنمسا والتشيك -، ودول أخرى، تدعم منهجاً أكثر توازناً، من مِثل إيرلندا وإسبانيا وهولندا ولوكسمبورغ. وعقد وزراء خارجية الاتحاد، اجتماعاً طارئاً في لوكسمبورغ، الاثنين الماضي، في سبيل محاولة التوافق على النصّ الذي سيخرج عن القمّة في شأن غزة، لكنهم لم ينجحوا في طيّ صفحة الخلافات، ورُحّل الأمر إلى قمّة بروكسل. أمّا بالنسبة إلى الجمهور الأوروبي، فيبدو أن إدارة اتحاد دولهم للموقف من الحرب على غزة، مثّلت واحدة من أسوأ لحظات التكتّل في تاريخه على الإطلاق، بفعل الخلافات العلنية بين كبار موظّفي "المفوضية الأوروبية" (الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي)، و"المجلس الأوروبي" (برلمان الاتحاد)، وتناقض تصريحاتهم، فضلاً عن عاصفة الانتقادات والاعتراضات من قِبَل عدد من الدول الأعضاء تجاه مواقف مسرفة في انحيازها إلى الدولة العبرية، تبنّتها رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لايين، في وقت مبكّر، ومن دون التشاور مع الحكومات الأوروبية.
انتقلت القمّة من خلاف يتعلّق بجوار الاتحاد، إلى خلافات أشدّ وطأة في شأن قضايا تمسّ الاستقرار في قلب أوروبا


ومع إنجاز التوافق حول النصّ المتعلّق بغزة، انتقلت القمّة من خلاف يتعلّق بجوار الاتحاد، إلى خلافات أشدّ وطأة في شأن قضايا تمسّ الاستقرار في قلب أوروبا، إذ هدّدت سلوفاكيا والمجر بتقويض الموقف الموحّد للاتحاد حول الصراع في أوكرانيا، بعدما أعربتا عن عزمهما الاعتراض على أيّ إجراءات جديدة قد تحاول بروكسل اتّخاذها لمدّ نظام كييف بالمساعدات العسكرية، أو فرض عقوبات جديدة على موسكو. وكان الدعم المالي والعسكري الذي قدمته بروكسل - إلى جانب واشنطن ولندن - حاسماً في تمكين النظام الأوكراني من الصمود في وجه العملية العسكرية الروسية المستمرّة منذ 20 شهراً.
تجدر الإشارة إلى أن القرارات تُتّخد بالإجماع في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يسمح لرئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، ونظيره السلوفاكي المنتخَب حديثاً روبرت فيكو، بعرقلة السير بقرارات جديدة. وكان أوربان قد التقى، الأسبوع الماضي، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وقال إن بلاده ترغب في إبقاء خطوط الاتصال مع موسكو مفتوحة، و"إلّا فلن تكون هناك فرصة لتحقيق السلام"، فيما أعلن فيكو، عشيّة وصوله إلى بروكسل لحضور قمّة الاتحاد، أن حكومة براتيسلافا لن تصوّت لمصلحة أيّ إجراءات جديدة لمساعدة أوكرانيا، أو لفرض عقوبات على روسيا، من دون تقييم معمّق لتأثير تلك الإجراءات على سلوفاكيا. وعلى هذه الخلفية، اندفع عدد من الزعماء الأوروبيين، وبخاصة من دول البلطيق، إلى انتقاد مواقف المجر وسلوفاكيا المعلَنة، وعبّروا عن خشيتهم من أن "الرّقص" مع نظام "يرتكب فظائع قاسية على الأراضي الأوكرانية"، يبعث بـ"رسالة خاطئة تماماً" ليس فقط إلى الأوكرانيين، ولكن أيضاً إلى شركاء الاتحاد الأوروبي الآخرين، وبالذات الولايات المتحدة.
وعلى هامش القمّة، تعرّضت جهود الاتحاد للتقريب بين مواقف صربيا وكوسوفو لفشل ذريع. فبعد أكثر من خمس ساعات من محادثات رعاها زعماء فرنسا وإيطاليا وألمانيا، بدت مواقف الجانبَين متباعدة أكثر من أيّ وقت مضى. وقالت حكومة كوسوفو إنها وافقت على اقتراح قدّمه الاتحاد الأوروبي في شأن إنشاء "إدارة ذاتية" للجزء الشمالي من البلاد، حيث غالبية السكان من الصرب، لكن حكومة بلغراد استنكفت عن التوقيع. كذلك، ناقشت القمّة مسألة الهجرة التي تقضّ مضاجع عدد من الدول الأوروبية، والزيادة المقترحة في الموازنات المشتركة للتكتّل، ولا سيما في ما يتعلّق منها بتكاليف توسيع حدود الاتحاد، عبر ضمّ عدد من الدول المرشّحة.