أثناء مهرجان انعقد في الرياض لتوزيع الجوائز على المغنّين والممثّلين في السعودية في نهاية «موسم الرياض» والمسلسلات التي تُعرض على قنوات «أم بي سي» العام الماضي، كان كلّما تغنّى أحد هؤلاء بالنجاح الباهر لـ«معالي المستشار»، تركي آل الشيخ، يشير الأخير بسبابته إلى فوق، إلى من يُطلِق عليه صفة «سمو سيدي»، أي ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان. وعلى المنوال نفسه، وردّاً على أيّ «حُسن ظن» بأن يؤدّي شلال الدم في غزة إلى إلغاء موسم الرياض الجديد المقرّر له أن يُفتتح اليوم، أو تأجيله على الأقلّ، كتب آل الشيخ قبل أيام، على منصّة «X»، أن «قطار موسم الرياض ماشي وسريع، وسيتمّ الافتتاح في الموعد المقرّر»، وذلك رغم المقاطعة التي أعلنها فنّانون كان يُفترض أن يشاركوا في الموسم، ولا سيما من مصر، بسبب الظروف الحالية، وكأنما كان الرجل يتشفّى بمن يُقتَلون في غزة من أطفال ونساء وشيوخ. وفي الأحوال كلّها، الرسالة واضحة بإعادة تعويم مقولة «فلسطين ليست قضيتي»، والتي تحاول الرياض تسويقها عبر وسائل التواصل الاجتماعي منذ سنوات. ولا حاجة، هنا، إلى القول إن المضيّ في تنظيم الحفلات يأتي بتعليمات من ابن سلمان.يمكن، بلا أيّ مجازفة، اعتبار ذلك مؤشراً إلى أن «الحميّة» التي أخذت ابن سلمان إلى وقف محادثات التطبيع مع إسرائيل في بداية الأحداث، توقّفت الآن، فيما قطار التطبيع السعودي عاد ليستعدّ للانطلاق لحظة نهاية الحرب أو ربّما قبلها. كما أن ثمّة دليلاً إضافياً على ما تَقدّم، هو ما ساقه بيان البيت الأبيض بعد المكالمة بين ابن سلمان والرئيس الأميركي، جو بايدن، قبل أيام، عن أن الرجلَين اتفقا على أنه «سيجري في النهاية البناء على المفاوضات التي كانت جارية لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل قبل اندلاع الحرب في غزة». هذا مؤشّر إلى أن الجهود الأميركية التي بُذلت بعد اندلاع الحرب مباشرة لإنقاذ محادثات التطبيع السعودية مع إسرائيل من ضربة غزة، نجحت. وهو مؤشّر أيضاً إلى أن سبب وقف المحادثات في المقام الأول لم يكن تأثير الدم الفلسطيني، وإنما التأثير المحتمل للانتصار الفلسطيني الذي تحقّق يوم السابع من تشرين الأول، على الأنظمة الموالية للولايات المتحدة. ففي زمن الحروب، الأولوية لحفظ الرأس.
وابن سلمان تعلّم (على صِغَرْ) وعمل منذ اعتلائه منصبه - قبل سبع سنوات - الذي يمارس عبره إدارة شؤون المملكة، على أن يشتري ويبيع مع الأميركيين على قاعدة أن لكلّ شيء ثمناً.
ابن سلمان «يستأنس» اليوم بعودة الأساطيل ومنظومات الصواريخ الأميركية إلى عدد من الدول في المنطقة، بينها السعودية


ومع أنه قد لا يكون مقتنعاً تماماً بأن الأميركيين سيوفّرون لنظامه الحماية على المدى البعيد، أو سيكونون هنا لتوفير تلك الحماية، فضلاً عن أنه رأى بأمّ عينه كيف أُذلّ الجيش الإسرائيلي على يد المقاومة الفلسطينية، ما يعني أنه لا يمكنه الرهان على مساهمة إسرائيلية في حماية نظامه، ولكنه «يستأنس» اليوم بعودة الأساطيل ومنظومات الصواريخ الأميركية وأعداد من الجنود الأميركيين، إلى عدد من الدول في المنطقة، بينها السعودية، لتشكيل مظلّة حماية لإسرائيل، تنسحب على الدول المطبّعة معها، باعتبار أن المعركة واحدة. من وجهة نظره، قد يكون هذا، وما يزيد عليه ربّما إذا توسّعت المعركة وعادت الجيوش الأميركية بجحافلها إلى المنطقة، دليلاً على أن للولايات المتحدة مصالح أكيدة هنا، وعندما تُهدَّد هذه المصالح، ستكون مستعدّة لفعل أيّ شيء للمحافظة عليها.
عودة الانضواء في طابور التطبيع فرضت على ابن سلمان، البراغماتي أحياناً، استعادة العلاقات مع الرمز الأول للتطبيع في الخليج، الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، في ما يدل على انقلاب الأولويات. ففي السنتين الماضيتين، امتدّ الخلاف بين الرجلين ليشمل الملفات كلّها، بدءاً من محاولات وليّ العهد الاستيلاء على دور الإمارات كمركز مالي وتجاري إقليمي، وصولاً إلى تعارض المصالح في اليمن حيث كانت لابن سلمان مصلحة في إنهاء الحرب المكلفة هناك، فيما رأى ابن زايد مصلحته في تأجيجها وتمزيق اليمن عبر فصل الجنوب عن الشمال. لا كلام الآن حول المفاوضات بين السعودية و«أنصار الله»، والتي يُفترض أنها توصّلت إلى اتفاقات لم يكن ينقصها سوى التوقيع. ذلك كلّه في حكم المجمّد الآن، في انتظار جلاء غبار الحرب. فما هو مطروح أكبر بكثير، وربّما يصل إلى حرب أميركية مع إيران، إذا اعتقد الأميركيون أن هذه هي الطريقة الوحيدة للإبقاء على وجود إسرائيل، بعد أن تتوسّع الحرب لتصبح حرباً إقليمية كبيرة. وحتى لو لم تصل الأمور إلى الحدّ المذكور، فإن التصوّر لدى الأميركيين، وهو ما يعرفه ابن سلمان وكلّ الأنظمة الخليجية الأخرى أيضاً، هو أن إسرائيل صارت بحاجة إلى حماية عسكرية أميركية وغربية دائمة، وبالتالي إلى وجود دائم ومُعتبَر للقوات العسكرية الأميركية والغربية في الخليج. ولا بدّ أن يُؤطّر ذلك باتفاقات عسكرية ومعاهدات لا تشمل إسرائيل وحدها، وإنّما دولاً أخرى حليفة في المنطقة، على شاكلة المعاهدة التي يفترض أن توقعها الولايات المتحدة مع السعودية كثمن للتطبيع. وهذا بالضبط ما كانت تطلبه دول الخليج لإبقاء رهاناتها كلّها على الولايات المتحدة، بعدما شعرت في السنوات الماضية أن واشنطن تتركها فريسة لخصومها في الخارج، وشعوبها في الداخل.
بالنتيجة، تَنظر السعودية ودول الخليج إلى التطوّرات، كفرصة لحياة جديدة ودور مستقبلي. ولا ينطبق ذلك على السعودية والإمارات فحسب، بل وأيضاً على بقيّة الدول الخليجية التي ما زالت كلّها أمنياً مرتبطة بالغرب، بما فيها سلطنة عمان وقطر والكويت.