غزة | تُنبئ تحرّكات اليومين الماضيين، بأن جيش الاحتلال انتقل إلى تنفيذ المرحلة الثانية من الحرب، أو على الأقلّ التمهيد للعملية البرية، عبر عمليات إنزال بري وتوغّل محدودة جدّاً، على رغم أنه لم ينجح أصلاً في تحقيق أهداف المرحلة الأولى، والمتمثّلة في التهجير القسري والكلّي لسكّان مدينة غزة وشمال القطاع، إلى منطقة ما بعد وادي غزة، أي إلى المحافظات الوسطى والجنوبية، إذ بدأ الآلاف من المواطنين الذين نزحوا من الشمال في الأيام الأولى للحرب بناءً على إنذارات العدو بالإخلاء، بالعودة إلى منازلهم التي يقع أكثرها في المناطق التي تعرّضت للقصف الجوي المكثّف في الأيام التالية لعملية «طوفان الأقصى»، ليجدوا الأحياء التي كانوا يعيشون فيها، قد دُمّرت بالكامل.واختار النازحون، هذه المرّة، أن يقيموا في مراكز إيواء قريبة من أماكن سكنهم الأصلية. في شارع الترنس الرئيس وسط مخيم جباليا في شمال شرق القطاع، يوحي الازدحام وكأنّ المخيم لم يتعرّض قبل أيام قليلة، لأكثر من خمس غارات أسفرت عن استشهاد ما يزيد على 100 مواطن، إذ ثمّة قناعة جماعية، هنا، بأن لا مكان آمناً في القطاع، وبالتالي فإن الأفضلية تُصبح لمصلحة العيش أو الموت تحت سقف المنزل، على التهجير إلى مكان آخر، ما دام القطاع بكامله معرّضاً للغارات الجوية التي لا ترحم. وبات هذا الخيار بالنسبة إلى هؤلاء العائدين، أكرم من العيش في ملجأ أو مركز إيواء بعيد سيختار الاحتلال أن يقتلك فيه في وقت لاحق. وبالقرب من مسجد الخلفاء في وسط مخيم جباليا الذي جالت فيه «الأخبار»، كان المئات من المواطنين يتنقّلون حاملين بطاريات يذهبون بها إلى منازل جيران لهم تتوفّر لديهم طاقة شمسية، وفتحوا منازلهم لتقديم خدمة شحن الهواتف وبدائل الكهرباء لجيرانهم، بينما كان آخرون يحملون أسطوانات الغاز المنزلي التي جازفوا بحياتهم في سبيل إخراجها من بيوتهم المدمّرة في المناطق الطرفية من شمال غزة أملاً في استخدامها في إعداد الأطعمة؛ ذلك أن الكهرباء والغاز المنزلي ظلّا شغل المواطنين الشاغل. وعلى باب «مدرسة شادية أبو غزالة» التي تحوّلت إلى مركز إيواء، وقف أبو محمد الكحلوت، الذي كان قد نزح وعائلته إلى مخيم النصيرات وسط مدينة غزة في اليوم العاشر من الحرب، وعاد أخيراً إلى منزله في منطقة السكة شرقي مخيم جباليا، ليجده والعشرات من منازل الحيّ المحيطة وقد سُوّيت بالأرض. ويقول أبو محمد لـ«الأخبار»: «خلال وجودنا في مخيم النصيرات، حيث أكرمنا الأهالي هناك وأحسنوا استضافتنا، ارتكب الاحتلال خمس مجازر في ليلة واحدة تسبّبت باستشهاد أكثر من 90 مواطناً»، مضيفاً: «قصفوا السوق ومحالَّ ومخبزاً ومركزاً تجارياً. طائرات الاحتلال توزّع الموت على الجميع. لذا وجدنا من الأكرم لنا أن نموت بين أهلنا، وفي أماكن قريبة من منازلنا».
الاحتلال يقفز عن مرحلة التهجير القسري لسكان مدينة غزة وشمال القطاع بعد فشلها


أما الشاب محمد المصري، فقد نزح إلى منزل لأقارب له في مدينة خانيونس. يقول محمد، لـ«الأخبار»، إن «الاحتلال قصف هناك منزلاً ملاصقاً للمنزل الذي كنت أقيم فيه، وأُصيب معظم أفراد عائلتي بجروح». ويضيف: «ألقت طائرات الاحتلال منشورات طالبت فيها حتى سكان جنوب القطاع بالنزوح إلى العراء في منطقة المواصي، على اعتبار أن تلك المنطقة ستكون آمنة»، متابعاً أن «من الغباء أن نواصل الاستجابة لنداءات التهجير التي لا تنتهي، بينما الطائرات لا تستثني أيّ منطقة في القطاع من قنابلها. ولذلك، اخترتُ العودة إلى شمال القطاع، إلى منطقتي. وليقضِ الله ما يشاء».
وكان الاحتلال قد مارس، منذ بداية الحرب، حرباً نفسية استهدفت سكان شمال القطاع ومدينة غزة، عبر الاتصال على هواتف المواطنين ومطالبتهم بإخلاء منازلهم. ثمّ صعّد تلك الحرب من خلال ارتكاب المجازر بقصف المنازل على رؤوس ساكنيها، والأسواق والمخابز ومراكز الإيواء، لإجبار الأهالي على ترك بيوتهم، تمهيداً لتدمير كلّ أحياء مدينة غزة وشمالها، كونها ستغدو مسرحاً لعملياته البرية المرتقبة. غير أن سياسة القصف الشاملة، والتي لم تستثنِ أيّ منطقة من القطاع، أفقدت جيش العدو مصداقيته، ما دفعه إلى القفز عن إصراره على التهجير الجماعي، والشروع في التوغّل البري المحدود.
وفي هذا السياق، يرى المحلل السياسي، محمد أبو جياب، أن «طموح الاحتلال الذي استخدم من أجله سياسة الرعب والترهيب بالمجازر، اصطدم بعقلية الغزّيين المجبولة بالعناد»، مضيفاً، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الاحتلال سيجد نفسه بعد كلّ مرحلة، مضطراً لتخفيض سقف طموحاته. كان يطمح إلى عملية عسكرية تقود إلى تغيير ديموغرافي قائم على ترحيل مليون ومئة ألف مواطن من مدينة غزة وشمال القطاع، واستخدامهما كمنطقة عازلة لحماية مستوطنات الغلاف. لكنّ الأهالي قالوا له: اقتلنا جميعاً ثم احتلّ الأرض». ويتابع: «لم يعُد أمامه الآن سوى استخدام السلاح النووي لتنفيذ إبادة جماعية ليحقّق ما يشاء... وسيحمل كلّ يوم من عمر هذه الحرب المزيد من التنازلات من قِبل العدو».

المقاومة تحافظ على الزخم الصاروخي
بعد 21 يوماً من القصف الجوّي المركّز على قطاع غزة، واصلت «كتائب القسام» استهداف مدن العمق الإسرائيلي، برشقات صاروخية كثيفة، ردّاً على المجازر المستمرّة بحق المدنيين، في ما ينبئ بأن المقاومة لا تزال متماسكةً ميدانياً، ومحتفظةً بقدراتها العسكرية. وأكدت «القسام» أنها قصفت مدن تل أبيب وعسقلان وأسدود ومستوطنة «رعيم» في «غلاف غزة»، فيما أعلنت «سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، قصف عسقلان بصاروخ «بدر 3»
وسُمع دويّ صافرات الإنذار في جميع أنحاء «غوش دان»، وفي «حولون» و«رمات غان» و«بات يام» و«ريشون لتسيون» و«موديعين»، و«نير عام»، و«لخيش»، و«نتيف هتارا» و«كرميا» و«ياد مردخاي»، ومناطق أخرى، بحسب وسائل إعلام عبرية. وأفادت «القناة 12» بسقوط صاروخين شرق «ريشون ليسيون»، حيث أصيب شخص بجروح متوسطة بشظية صاروخ سقط في منطقة زراعية، ونقل إلى مستشفى «شامير» لتلقّي العلاج، فيما حقّقت الدفعة الصاروخية التي طالت «سديروت»، مساءً، إصابة مباشرة، بحسب قناة «الجزيرة» القطرية.