منذ بدء الأسبوع الثالث لمعركة «طوفان الأقصى»، بدأ العدو الإسرائيلي الإعلان عن تحضيره لعملية عسكرية برية على غزة بعدما اعتمد بالكامل في الأيام الماضية على قصفٍ عنيف متواصل، حتى بلغ حجم الصواريخ والمتفجرات ما يقارب الـ12 ألف طن، أي ما يعادل قنبلة اليورانيوم المخصّب التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية على هيروشيما في الحرب العالمية الثانية، وفقاً لكلام الخبير العسكري الأردني فايز الدويري.العملية المضادة التي أسماها جيش الاحتلال «السيوف الحديدية»، لم تأتِ بهدف استرجاع أسراها الموجودين لدى المقاومة الفلسطينية في غزة، ولم تحقق أي هدفٍ واضح آخر بعد الصدمة التي أحدثتها عملية «الطوفان» لدى حكومة الاحتلال، كما جاء في عنوان الصحيفة الإسرائيلية المقرّبة من رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو «إسرائيل اليوم» بعد الأسبوع الأول للمعركة: «مطلوب هدف واضح وفوري».


إذاً، أراد «جيش» الاحتلال تدمير غزة وإبادة أهلها، خصوصاً لدى فشله في استهداف حركة «حماس»، وفي استعادة هيبته العسكرية وسمعته الوحشية. إذ أتى ذلك جلياً في ارتكابه لمجزرة «مستشفى المعمداني»، وقصفه لـ «كنيسة القديس برفيريوس»، وعدد من المساجد، ومدارس تابعة لوكالة «الأونروا»، ومقرات القنوات التلفزيونية والإعلامية، حتى كتب الصحافي الاستقصائي الأميركي سيمور هيرش إنّ «إسرائيل تعتزم تحويل مدينة غزة إلى هيروشيما، مع الفارق أنها لن تستخدم الأسلحة النووية». وحدد جيش الاحتلال هدفه من العملية التي سيتبعها اجتياح يقضي فيه على «حماس». وقبل أن يبدأ بالتوغل بريّاً مساء الجمعة، كثّف الغارات وأطلق الصواريخ الارتجاجية بقصد تدمير الأنفاق وإغلاق مداخلها على رؤوس من فيها (من ضمنهم المستوطنين المحتجزين لدى «كتائب القسام»)، وقطع عمداً جميع سبل الاتصال عن المدينة من خطوط الاتصالات إلى شبكات الإنترنت. أراد العدو الصهيوني عزل غزة بالكامل عن العالم حتى يستطيع اقتراف جرائمه الحربية بعيداً عن عدسات الكاميرات والتلفونات الخلوية، وليس هذا بالجديد عن العدو الصهيوني الذي ارتكب مجزرة صبرا وشاتيلا في عام 1982 بعد خروج «منظمة التحرير» من لبنان وضمانات الولايات المتحدة الأميركية بسلامة الفلسطينيين. كما وضّح المفكر والكاتب نعوم تشومسكي أنّ أميركا تتحمل المسؤولية لإعطائها الضوء الأخضر لجيش الاحتلال باجتياح لبنان. ولولا شهادة بعض الصحافيين الأجانب مثل روبرت فيسك، الذي كان حينها مراسلاً لصحيفة الـ«إندبندت» البريطانية، والكاتب الفرنسي جان جينيه، اللذين رويا المشاهد المروعة للمجزرة، لكانت دُفنت وأُخفيت كما لو أنها لم تحدث. كان العدو الصهيوني جاهزاً لإنكار ما حدث وفقاً لما أورد الصحافي الصهيوني شيمون شيفر في كتابه «كرة الثلج – أسرار التدخل الإسرائيلي في لبنان» (1985). كان ذلك في عام 1982، أما اليوم، فتتحمل أميركا أيضاً المسؤولية عما يحدث في غزة، فقد أتت بنخبة من جيشها وأسلحتها وآلياتها لتدعم إبادة الغزّيين وتتأكد من التخلص من المقاومة، وتنكر الجرائم التي ستُرتكب بالتأكيد في غزة، فليس هناك من مبرر لقطع الاتصالات بالكامل عن الغزاويين وعزلهم التام عن العالم إلّا لإبادة الفلسطينيين سرّاً. كما جاء من تحذيرات صادرة عن منظمات دولية مثل «هيومان رايتس واتش» التي اعتبرت أن قطع الاتصالات قد يكون «غطاء لفظائع جماعية ويسهم في الإفلات من العقاب على انتهاكات لحقوق الإنسان».
في بداية الستينيات من القرن الماضي، تنبأ الفيلسوف الكندي والمنظّر في وسائل الاتصال الجماهيري مارشال ماكلوهان بتحويل العالم إلى قرية كونية، قبل الإعلان عن اختراع الإنترنت في عام 1969. ومنذ ذلك الحين والعالم بقارّاته وبلدانه انكمش على بعضه وأصبح «قرية عالمية»، أي مترابطاً بفعل وسائل الاتصال الجماهيرية التي قربّت المسافات ونقلت الصورة والخبر لسكان العالم، وأسهمت منصات التواصل الاجتماعي في تعزيز ذلك حتى لم تبقَ منطقة معزولة عن الاتصال بالإنترنت ومشاركة أخبارها اليومية. أما اليوم في عام 2023، فقد قرّر الاحتلال الإسرائيلي عزل غزة عن العالم، العالم كله قرية واحدة متصلة بالإنترنت وتنقل أخبارها وسائل الإعلام الكلاسيكية، بينما مدينة غزة خارج هذه التغطية. أعلنت منظمة الصحة العالمية أنها فقدت الاتصال بموظفيها، وصرّح الهلال الأحمر الفلسطيني عن انقطاع الاتصال «بصورة كاملة عن غرفة العمليات في قطاع غزة، وعن طواقمنا العاملة هناك كافة وسط قطع سلطات الاحتلال لشبكات الاتصالات الأرضية والخلوية والإنترنت على نحو كامل»، وبدأت قنوات التلفزة أيضاً بنشر خبر انقطاعها عن مراسليها في الداخل. استغلت هذا الانقطاع بوقاحة القناة الأميركية CNN، ففتحت المجال لاستضافة مراسلين «إسرائيليين» وأعطت الهواء للمتحدث باسم حكومة الاحتلال فاتحة المجال أمام الرواية الصهيونية لما يحدث في غزة، مطلقين على تغطيتهم مستجدات «إسرائيل في حرب».
ورغم ذلك كله، استطاع بعض الغزاويين القريبين من الحدود مع مصر الذين يحملون شريحات أرقام هواتف مصرية، أن يتلقوا إشارات شبكات مباشرة من الأراضي المصرية، فتحولوا إلى مراسلين ينقلون ما يحدث ساعة بساعة حسب ما تسعفهم في ذلك شبكة الانترنت. كتب المدوّن أحمد الحاجز: «أنا في غزة وأهلي أيضاً ولكن لا أعلم أي شيء عنهم، لا أحد يعلم عن الآخر شيئاً في القطاع ولا أحد يعلم عنا شيئاً في الخارج. غزة شهدت ليلةً هي الأصعب في تاريخها، الاحتلال استهدفها بالصواريخ طوال الليل بحراً وجواً وبراً. خرج عليّ الصباح لأقول لكم: في اليوم الـ 22 من الحرب، غزة تُباد». وروى الصحافي محمد الزعنون تفاصيل تلك الليلة بقوله: «كل الناس تواصلوا معنا عشان يساعدونا في موضوع الإنترنت. كل الصحافيين بخير. حنحاول نوصلكم الصورة ورسالتنا مرة أو مرتين يومياً، وإذا ما تواصلنا خلال فترات كبيرة فبنكون فقدنا الاتصال عن العالم وروحنا إلى بارئنا».
ظهر المصور بلال خالد في تسجيلين مباشرين عند منتصف الليل نقل فيهما حالة القطاع

ونشر المصور بلال خالد عبر منصة إنستغرام منشوراً على شكل صورة كتب فيها عن انقطاع التواصل التام داخل غزة، وتخوفه من ارتكاب جيش الاحتلال لجريمة لن يعرف بأمرها العالم، ثم عاد وأتبعها برسالة طمأن الناس إلى أنّ التوغل البري لم يتجاوز حدود غزة. قام خالد بدور المراسل، إذ ظهر بتسجيلين مباشرين عند منتصف الليل نقل فيهما حالة القطاع تحت القصف البري والجوي والبحري للمناطق الشمالية والمجازر التي حدثت هناك، واستهدافات أخرى في مخيم الشاطئ وحي التفاح ومحيط برج الغفري. كما غرّد محمد سميري فور قطع الاتصالات عن القطاع بأنّ غزة معزولة عن أي شبكة تواصل وأنهم يحاولون أن يلتقطوا إشارات شبكات إنترنت مصرية، وألحقها بتغريدات متتالية: «العالم خذلنا»، و«قد تكون تغريدتي الأخيرة»، ثم عاد وكتب بأنه «لا يزال على قيد الحياة». وعمد الصحافيون في غزة إلى اعتلاء سطوح مبانٍ مرتفعة مخاطرين بحياتهم من أجل محاولة التقاط شبكة اتصال حتى يرسلوا فيديوات وأخباراً يطمئنون فيها الناس إلى أحوالهم في القطاع. كان هؤلاء وغيرهم من الغزاويين، الذين استطاعوا الاتصال بشبكات مصرية أو إنترنت فضائي، ينقلون مستجدات الحرب على غزة في الوقت الذي غابت فيه المحطات التلفزيونية عن نقل ما يحدث من الداخل. ونشر حساب مسمى بعنوان «ياسر غزّة» مجموعةً من الرسائل الصوتية عبر الواتساب تجمعه بعائلته التي انقطعت اتصالاته بها لحظة انقطاع الإنترنت. الرسائل التي تروي حالةً إنسانية مؤلمة، عادت ووصلته بعد عودة الإنترنت، فعلّق عليها بقوله: «مجموعة تسجيلات صوتية من عائلتي للقصف الصهيوني على #غزة تم تسجيلها خلال انقطاع الإنترنت ووصلت اليوم بعد عودته، هذه الأصوات ستبقى خالدة في الذاكرة البشعة للاحتلال، وستكون شاهدة في أرشيفنا بعد تحرير فلسطين». أما هند خضري، فروت بصورة مستمرة حالة انقطاع الإنترنت خطوة بخطوة، وظلّت تتابع الحالة التي تحدث كما لو أنها أقرب إلى مراسل لا يروي الحدث فقط، بل يعلّق عليه، فتنشر فيديو للقصف الذي يحدث أمامها، ثم تعود لتشارك الأخبار عن حالة الإنترنت.