نجحت أفريقيا في ترجمة الاصطفاف الشعبي خلف القضية الفلسطينية وتطوّراتها، منذ السابع من تشرين الأول الجاري، إلى عمل ديبلوماسي، تجلّى في تصويت غالبية الدول الأفريقية الأعضاء (45 دولة) في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لمصلحة القرار الأممي (27 الجاري) الذي دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، وما سمّاه «الإفراج عن جميع المدنيين وحمايتهم»، كما حماية المؤسّسات الدولية، وتوفير ممرّ آمن لدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. وفيما امتنعت ستّ دول أفريقية عن التصويت، هي: إثيوبيا، الكاميرون، كيب فيرد، زامبيا، جنوب السودان وتونس، إلّا أن أيّ دولة من دول القارة لم تصوّت ضدّ القرار، الذي، وإنْ كان لا يُعدّ ملزماً، إلّا أنه أثار قلقاً إسرائيلياً (وغربياً) متصاعداً، على خلفية ما كشفه من دعم دولي كبير للفلسطينيين.
وتكشف قراءة خريطة الدعم الأفريقي للقرار الأممي، عن إحجام دول كانت محسوبة على المعسكر المؤيّد لإسرائيل، عن المصادقة على الموقف العدواني للاحتلال، إذ أيّد القرارَ كلّ من كينيا وغانا وساحل العاج وجمهورية الكونغو الديموقراطية، رغم صلات هذه الدول «المميّزة» مع دولة الاحتلال. كما يبدو أن دولاً من مِثل الغابون، عزّزت استقلالية سياساتها الخارجية، وفقاً لما اتّضح من تصويتها الذي جاء مغايراً للموقف الأميركي - الإسرائيلي، في وقت لم تفت فيه المراقبين الإشارة إلى أن هذا التوجّه بات يواجَه بردود أميركية متلاحقة. وما يجلّي ذلك، على سبيل الذكر، وصْف الإدارة الأميركية، ما حدث في الغابون، في آب الماضي، بـ«الانقلاب»، بعد ساعات قليلة من تصويت ليبرفيل بـ«لا» على مشروع القرار الأميركي في خصوص فلسطين، المقدّم أمام مجلس الأمن (24 الجاري)، جنباً إلى جنب أربعة مشروعات قرارات فشلت جميعها في نيْل إجماع المجلس.
ويؤشّر ما سبق، أخذاً في الحسبان انتهاج الصين وروسيا سياسات صريحة في التزام «الحياد المنحاز» إلى الموقف الفلسطيني، إلى وجود مخاوف إسرائيلية وأميركية حقيقية من التوجّه الحالي إلى الديبلوماسية الأفريقية، واعتبار مواقف الأخيرة تجاه فلسطين «خروجاً عن النصّ» الذي ساد في القارة منذ نهاية الحرب الباردة، وبدء موجة التحوّل الديموقراطي مطلع تسعينيات القرن الماضي. لكن يغيب عن الرؤية الصهيونية الاستعلائية تجاه القارة، كما اتّضح أقلّه عبر وصْف الخارجية الإسرائيلية مواقف الدول المؤيّدة للقرار، وغالبيتها دول أفريقية، بـ«الدناءة»، التغيّر الملموس في الأداء الحكومي الذي بات أكثر ميلاً إلى محاكاة تطلّعات الشعوب (كما تبيّن في الحالتَين الكينية والغانية)، وعدم المجازفة بتبنّي مواقف عدوانية مجانية في قضية تصبح يوماً بعد آخر همّاً أفريقيّاً، وامتداداً حقيقيّاً للتجارب النضالية في القارة.

دول موالاة إسرائيل: بين المصالح والمبادئ
وفيما بدا غريباً امتناع تونس عن التصويت لمصلحة القرار (وإنْ برّرته بكون الوضع الخطير في غزة (...) يوجب سقفاً أعلى)، فإن مواقف الدول الأفريقية التي امتنعت عن التصويت، غالباً على خلفية عدم نصّ القرار على إدانة حركة «حماس» بالاسم، تبدو منسجمةً مع سياقاتها. إذ إن إثيوبيا، بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد، على سبيل المثال، تَنظر إلى إسرائيل على أنها شريك «دفاعي وسياسي» إستراتيجي، فيما تواجه أديس أبابا ضغوطاً داخلية لتحقيق اختراقات إقليمية مهمّة من قبيل الحصول على منفذ على البحر الأحمر، وتحقيق نصر حاسم على مصر في ملفّ «سد النهضة». كذلك، جاء الموقف الإثيوبي متّسقاً مع تجاهل الأزمة برمّتها، في ظلّ غيابها عن التغطية الإعلامية الإثيوبية طوال شهر تقريباً.
أمّا زامبيا، فوطّدت علاقاتها علة نحو متسارع مع إسرائيل، في الأشهر الأخيرة، وباتت واحدة من أهمّ مراكز الحركة الإسرائيلية في جنوب أفريقيا. وكان الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، قد استقبل نظيره الزامبي، هاكيندي هيتشيليما، مطلع آب الماضي، في زيارة أفضت إلى تعميق أوجه «التعاون» بين الجانبَين في قطاعات التكنولوجيا والزراعة والعلوم والصحة. وعبّر هرتسوغ عن أهميّة «دور لوساكا في تعزيز مساعي تل أبيب» لنيل منصب عضو مراقب في «الاتحاد الأفريقي»، فيما أعلن الرئيس الزامبي، الذي زار «حائط المبكى»، تطلُّع بلاده إلى «الاستفادة من خبرات إسرائيل» في مجالات المياه والابتكار المالي والزراعة والتعليم، وتطبيق الاتفاقات الموقّعة بين الجانبَين في هذه المجالات.
ومن جهته، تبنّى جنوب السودان، الغارق في سلسلة أزمات سياسية وإثنية، موقفاً تقليديّاً داعماً لإسرائيل، منذ بداية العدوان، إذ أرسل رئيسه، سلفا كير، «خطاباً شخصيّاً» إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو (10 الجاري)، يعبّر فيه عن «عمق تعاطفه وشعبه مع نتنياهو وشعب إسرائيل» في مواجهة «إرهاب حماس»، معتبراً أنه «ليس ثمّة مظالم سياسية تبرّر قتل المدنيين الأبرياء»، في ما يكشف عن رؤية «صهيونية» للأزمة، وخروج عن نطاق التفاعل مع التصعيد الفلسطيني والردّ الإسرائيلي، إلى تلمُّس الخطر الوجودي الذي تمرّ به الدولة اليهودية. ومن هنا، فإن تصويت جوبا جاء متّسقاً تماماً مع خطّ كير.
تبنّى جنوب السودان، الغارق في سلسلة أزمات سياسية وإثنية، موقفاً تقليديّاً داعماً لإسرائيل


ولا يمكن، بأيّ حال، فصْل موقف الكاميرون عن حقيقة حماية قوات الأمن الإسرائيلية لنظام الرئيس بول بيا منذ عقود، وسط التتويج المستدام للعلاقات بين البلدَين، والتي لم تفتر تقريباً منذ عام 1960.
خلاصة
أعاد تصويت الأمم المتحدة الأخير في خصوص غزة، تشكيل رأي أفريقي «ثوري»، إذ مثّلت الكتلة الأفريقية الداعمة للقرار أكثر من ثلث دول العالم المؤيّدة له، في ما يؤشّر إلى تآكل واضح في سردية إسرائيل كدولة مثالٍ لأفريقيا، وإلى أن غالبية دول القارة قد نجحت في «الاختبار الفلسطيني»، الأمر الذي من شأنه تعميق مخاوف العدو وداعميه. وإذا كانت إسرائيل قد وسّعت عملياتها البرية في غزة بدعم عسكري مباشر من الغرب، وتجاهلت مقرّرات المجتمع الدولي والإنساني، على نحو يكشف استمرار الرؤية الغربية الاستعمارية للأزمات في «الجنوب العالمي»، فإن المواقف الأفريقية تصبّ في خانة دعم صعود هذا الجنوب بخطوات تدريجية تجاوزت راهناً مسألة عدم الوعي بطبيعة الصراع في فلسطين، إلى تمكين الوعي الجديد من صياغة سياسات واضحة ومستقلّة إلى حدّ كبير عن «السردية الصهيونية» التي تغلغلت في أرجاء القارة لعقود.