أَوجد العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، والمشاهد المروّعة للمجازر التي تُرتكب في حقّ الشعب الفلسطيني، حالة استقطاب على مستوى الرأي العام العالمي، بين مروّجي الدعاية الصهيونية ورعاتها الأساسيين من سياسيين ورجال أعمال ووسائل إعلام، وداعمي الحقّ الفلسطيني من أفراد وناشطين ونخب سياسية وفكرية واجتماعية. إزاء هذا الواقع، والذي غالباً ما كانت «موازينه» مختلّة بصورة عكسها الغرب سياسياً وإعلامياً ضمن «سردية» منحازة إلى إسرائيل، أسفر الصراع بين المعسكرَين، على خلفية ما يجري في غزة، عن حالة احتقان في الاتجاهَين، بخاصّة في اتّجاه اليهود، والصهاينة منهم على نحو أدقّ. ومع «نجاح» إسرائيل، يوماً بعد يوم، في ترسيخ ذاتها كطرفٍ معتدٍ لا يقيم وزناً لِما يسمّى «القوانين والأعراف الدولية» بالصوت والصورة، بدعم غربي أَطلق يدها في ارتكاب المجازر، تصاعدت الأصوات الاحتجاجية ضدّها، في أوساط الرأي العام الدولي، والغربي ضمناً، لا يبدو مستغرَباً أن تروّج الأنباء، منذ الأيام الأولى لبدء العدوان على غزة، حول تعرّض دبلوماسي إسرائيلي لعملية طعن في العاصمة الصينية بكين، وما تواتر في شأن إلقاء قنابل حارقة على كنيس يهودي في العاصمة الألمانية برلين، وصولاً إلى ما تعرّض له، أمس، ركّاب يحملون جنسية كيان الاحتلال، على متن طائرة قادمة من مطار تل أبيب، كانت تستعدّ للهبوط في مطار مدينة محج قلعة، عاصمة جمهورية داغستان، التابعة للاتحاد الروسي، وذلك قبل أن يتمّ اعتراضهم من قِبَل متظاهرين. وكشكل من أشكال التضامن مع معاناة سكان القطاع، وتنديداً بالعدوان الإسرائيلي، تجمهر المئات من المحتجّين، رافعين أعلام فلسطين، وسط صيحات التكبير، قبل أن يقتحموا مطار المدينة للاعتراض على هبوط الطائرة، ومن ثمّ يتمّ إجلاؤهم من جانب السلطات الأمنية المحلّية.

تجمهر المئات من المحتجّين، رافعين أعلام فلسطين، وسط صيحات التكبير (أ ف ب)

«أحداث الشغب» في محج قلعة، والتي تبعها إغلاق المطار مؤقّتاً، أفضت إلى اعتقال نحو 60 شخصاً، من أصل 150 شاركوا فيها، فضلاً عن إصابة 20، من بينهم تسعة من ضباط الشرطة، وفق بيان صادر عن الشرطة الروسية. وسريعاً، أُقحم الحادث في الجدل السياسي الدائر بين روسيا وأوكرانيا، حين سارع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى إدانة «مقاطع الفيديو المروّعة» الواردة من داغستان، مشيراً إلى أن ما جرى في مطار محج قلعة يعكس «ثقافة الكراهية المتجذّرة التي يثيرها الكرملين منذ سنوات». وتابع أن «خطاب الكراهية بات أمراً روتينياً شائعاً من جانب الإعلاميين الروس في وسائل الإعلام الحكومية»، معتبراً أن هذا النوع من الخطاب هو «العامل المحرّض على العدوان والإرهاب». من جهتها، اتهمت السلطات المحلّية في داغستان، التابعة لموسكو، ما سمّتها «وسائل إعلام متطرّفة يديرها أعداء روسيا»، بالوقوف خلف عملية التحريض على الاضطرابات في هذا البلد، ذي الغالبية المسلمة. وأشارت وسائل إعلام روسية، بدورها، إلى أن أحد الحسابات على موقع «تلغرام»، والمرتبطة بالبرلماني الروسي السابق، إيليا بونوماريوف، الذي سبق أن فرّ إلى أوكرانيا، وأصبح معارضاً لسياسات الكرملين، ضالع في الاضطرابات الأخيرة، كاشفةً عن دور الحساب المذكور في الترويج لحملات علنية ترمي إلى ملاحقة ركاب الرحلة القادمة من تل أبيب فور وصولهم إلى مطار محج قلعة، إلى جانب دوره في تناقل صور عبر «تلغرام» تتعلّق بجدول الرحلات من وإلى المطار المذكور يومَي السبت والأحد الماضيَين، ومنها الرحلة القادمة من الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
وفي المقابل، يحلو للبعض توصيف المشهد الاحتجاجي الأخير في داغستان، باعتباره «تساهلاً روسيّاً» مع الأنشطة المعادية لإسرائيل، ربطاً بـ»دفتر حساب قديم»، وقد بات مُثقلاً بحسابات الميدانَين السوري، ومنها ما يتعلّق بالاتهامات الروسية لتل أبيب بالتسبب بكارثة إسقاط الطائرة «Il-20» فوق سوريا، عام 2018؛ وكذلك الأوكراني، ولا سيما غضّ إسرائيل النظر عن مشاركة مرتزقة يحملون جنسيتها في قتال القوات الروسية في أوكرانيا؛ وحالياً الفلسطيني، على خلفية تهميش تل أبيب دور موسكو الداعم لـ»حلّ الدولتين». ويبني هؤلاء تصوّراتهم على عوامل عدة، من بينها استقبال روسيا وفداً من حركة «حماس» قبل أيام، ورفض موسكو أيّ مساعٍ لإدانة حركة المقاومة الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي، إضافةً إلى تشبيه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ما يجري في غزة، بـ»حصار لينيغراد» في الحرب العالمية الثانية. وليس بعيداً من هذا السياق، ما تشيعه مصادر دبلوماسية إسرائيلية عن قلق لدى حكومة بنيامين نتنياهو، من أن تكون مواقف روسيا الأخيرة بخصوص غزة، تحمل دلالات على «تحوّلات جوهرية في سياساتها الشرق أوسطية، بصورة يمكن أن تشكّل تهديداً أمنياً متزايداً لإسرائيل بدءاً من سوريا، وصولاً إلى المنطقة ككلّ». هذا بالتحديد، ما يتطرّق إليه مدير برنامج دراسات روسيا في «المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي»، آركادي ميلمان، حين يبدي خشيته من أن تكون أحداث السابع من تشرين الأول الجاري، شكّلت «تحوّلاً تكتونيّاً في مقاربة روسيا للعلاقات مع إسرائيل»، ملمّحاً إلى أن الحرب في أوكرانيا شكّلت إرهاصات ذلك التحوّل الرامي إلى ترسيخ محور دولي «معادٍ للولايات المتحدة»، عماده الإقليمي تعزيز العلاقات مع إيران.
يحلو للبعض توصيف المشهد الاحتجاجي الأخير في داغستان، باعتباره «تساهلاً روسيّاً» مع الأنشطة المعادية لإسرائيل


من جهتها، وفي مؤشّر إلى قلقها من الارتدادات السلبية لاعتداءاتها المستمرّة ضدّ المدنيين الفلسطينيين، على «صورتها الدولية»، ولا سيما في أوساط الجاليات المسلمة حول العالم، وضمناً روسيا، عقدت حكومة الاحتلال الإسرائيلي مداولات طارئة لهيئة الأمن القومي للبحث في أحداث محج قلعة، داعيةً السلطات الروسية إلى حماية الجالية اليهودية على أراضيها، ومستنكرة «التحريض الشرس ضدّ اليهود والإسرائيليين». وعلى وقع مستوى القلق نفسه، تلقّفت وسائل إعلام إسرائيلية، تقارير عن تظاهرات حاشدة تمّ تنظيمها قبل أيام أمام فندق «فلامينجو» في مدينة خاسبيورت في داغستان، للمطالبة بطرد الإسرائيليين من الفندق، توازياً مع أنباء عن تظاهرات أخرى مناهضة لإسرائيل كان مسرحها العاصمة الداغستانية، ومدينة تشيركيسك، عاصمة جمهورية قراتشاي-شركيسيا التابعة للاتحاد الروسي.
وفي معرض تعليقها على الأحداث، لفتت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أنّ الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل و»المعادية للسامية» في شمال القوقاز، في إشارة إلى ما جرى في مطار محج قلعة، يمكن أن تشكّل تحدّياً لسياسات الكرملين الداخلية القائمة على احترام التعايش بين مختلف الأعراق والأديان في البلاد، والتي يتعامل معها كأولوية على المستوى الداخلي، في وقت تخوض فيه روسيا حرباً في أوكرانيا. في المقابل، ينطلق البعض ممّا جرى في محج قلعة، باعتباره دليلاً على تنامي حضور المسلمين في روسيا، والذين يقارب عددهم الـ15 مليوناً، ضمن المشهد السياسي والإعلامي في بلادهم، من جهة، وعلى رفض المجتمع الروسي، بشكل عام، لـ»السرديات الغربية» في شأن ما يحدث في الشرق الأوسط، وتحديداً في فلسطين المحتلة، من جهة ثانية. من هذه الخلفية، وعلى وقع تقارير غربية في شأن تودّد الحكومة الروسية نسبياً إلى مواطنيها المسلمين في الأعوام الأخيرة، واحتضانها لقضاياهم، وهواجسهم، جاءت تصريحات رئيس قسم العلاقات الخارجية في دار الإفتاء الداغستانية، شهاب الدين حسينوف، عن أن ما سُجّل من غضب شعبي في داغستان، يندرج في إطار «الردّ الطبيعي» على ما يحصل من إبادة لأهالي غزة، وأن شعبه «يرفض وجود هؤلاء الإسرائيليين» على أراضي داغستان. وفي الاتجاه نفسها، جاء قول المفكّر الروسي، ألكسندر دوغين، إن «الأحداث في داغستان تُظهر مدى المشاعر الملتهبة في العالم الإسلامي، الذي يغلي وهو يراقب الأحداث في فلسطين»، مضيفاً أن مليارَي مسلم «يدخلون في نظام الكراهية تجاه إسرائيل والغرب الذي يدعمها بشكل أُحادي وغير مشروط». وفي ما يتعلّق بحجم الدور الذي بات يلعبه المسلمون الروس في سياسة بلادهم الخارجية، بخاصّة في شقّها الإغاثي، تكشف استطلاعات رأي غربية أن 60% من مسلمي روسيا يشعرون بارتباط قوي مع المسلمين الآخرين في العالم، بينما 70% منهم لديهم مسؤولية اجتماعية لمساعدة أشقائهم في البلدان الإسلامية الأخرى، حيث يضطلعون بدورهم في البرامج الإغاثية الروسية في فلسطين، وسوريا، ولبنان.