وقّعت المنظّرة اليهودية الأميركية جوديث بتلر (1956) على رسالة مفتوحة من «المجتمع الفني إلى المنظمات الثقافية» لوقف الحرب على غزة وإدانة الجرائم الإسرائيلية و«كسر الصمت المؤسّسي فوراً بشأن الأزمة الإنسانية التي يواجهها 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة المحتل والمحاصر». جاء اسمها بين عدد من الشخصيات الثقافية الأكاديمية والفنية البارزة مثل الفنانتَين الأميركيّتَين جوان جوناس أستاذة الفن البصري في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، والرسامة كارا واكر. لكنّ السم في العسل هو معظم ما يقدمه الغرب للشرق، إذ إنها في الوقت نفسه كتبت مقالاً بعد الأسبوع الأول للجرائم الحربية على غزة تدين فيه ما تقوم به حركة «حماس» من عنف و«جرائم بحق الإسرائيليين».
ملصق (1982) لخوان فوينتس (المكسيك)

«أنا أدين من دون قيد أو شرط أعمال العنف التي ترتكبها «حماس». كانت مذبحة مرعبة ومثيرة للاشمئزاز. كان هذا رد فعلي الأساسي، وهو مستمر» تقول النسويّة وأستاذة الدراسات الجندرية في «جامعة كاليفورنيا» في بيركلي في مقالها المنشور في London Review of books الذي قدّمته على أنّه يحاول طرح القضية الأكثر أهمية التي يجب مناقشتها على نحو عاجلٍ. توضح بتلر أنّ مثل هذا النوع من القضايا يصعب مناقشته في العادة كما يصعب اتخاذ موقف حاسم ومباشر بشأنه من دون النظر إلى الإطار المحيط بالصراع الفلسطيني «الإسرائيلي». لذلك فإنّ الإجابة عن السؤال «إلى أي جانب تقفون؟» لا تأتي باتخاذ موقف منحاز لأحد الطرفين ولا بتأييد كامل لأيّ منهما، بل تتشكل أولاً في «رفض العنف وإدانته» وفقاً لبتلر. تبرّر الأكاديمية كلامها بأنها تود الحديث عن العنف وتاريخه وممارسته في الوقت الحالي قبل أن تصرّح في مطلع كلامها بأي موقف قد يبدو «نسبياً»، وتدعو إلى السؤال عن مدى صحة اللغة التي نستعملها في الحديث عن الإدانة (لأي من الطرفين) والفهم التاريخي الذي نكوّنه لاتخاذ موقف واضح. هكذا إذاً تغرقنا بتلر في أسئلتها الأخلاقية والمنطقية وفي طرحها المغلّف بالعقلانية: «سيكون من الغريب بصورة خاصة الاعتقاد بأن الإدانة تتطلب رفض الفهم، خوفاً من أن المعرفة لا يمكن أن تخدم سوى وظيفة نسبية وتقوّض قدرتنا على الحكم. وماذا لو كان من الضروري أخلاقياً أن نوسّع نطاق إدانتنا للجرائم المروعة مثل تلك التي سلطت وسائل الإعلام الضوء عليها مراراً وتكراراً؟ متى وأين تبدأ إدانتنا وتنتهي؟ ألا نحتاج إلى تقييم نقدي ومستنير للوضع تصاحبه الإدانة الأخلاقية والسياسية، من دون أن نخشى أن يؤدي اكتسابنا للمعرفة إلى تحويلنا، في نظر الآخرين، إلى إخفاقات أخلاقية متواطئة في الجرائم البشعة؟».
تتأرجح الباحثة الجندرية في مقالها بين التعاطف مع الفلسطينيين وإدانة «جرائم حماس»، وبين مطالبتها بوقف الجرائم التي يرتكبها العدو الصهيوني في غزة والتعاطف مع خوف الإسرائيليين مما يحدث، فتقول: «صديقة إسرائيلية، تصف نفسها بأنها «معادية للصهيونية»، تكتب على الإنترنت أنها تشعر بالرعب على عائلتها وأصدقائها، وأنها فقدت الناس. ويجب أن تتوجه قلوبنا إليها، كما تفعل قلوبنا بالتأكيد. إنه أمر فظيع على نحو لا لبس فيه. مع ذلك، ألا توجد لحظة يمكن أن نتصور فيها أن تجربتها الخاصة من الرعب والخسارة لأصدقائها وعائلتها هي ما قد يشعر به الفلسطيني على الجانب الآخر، أو ما شعر به بعد سنوات من القصف والسجن والعنف العسكري؟». تلعب صاحبة كتاب «مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية» (2017) بوتيرة متواصلة على موقفها من الصراع، هي التي صرّحت بشجاعة عام 2006 تعليقاً على «حرب تموز» بأنّها ترى «حزب الله» و«حماس» ضمن الحركات الاجتماعية التقدمية مع المحافظة على الجانب النقدي في تناول الحالتين. حينها، اكتسبت المنظّرة شعبيةً في الأوساط الأكاديمية العربية ونالت احترام كثيرين بصفتها يهودية من جيل يحمل معاناة أهله مع النازية والهولوكوست ويمتلك المعرفة والوعي الأخلاقي للتمييز بين الحق والباطل، ويساند الحق من دون خوف. كان المؤرخ الأميركي نورمان فينكلستين أبرز من تحدث عن ضرورة وقوف اليهود الناجين من المحرقة إلى جانب القضية الفلسطينية لأنهم يعرفون معنى الظلم والتنكيل والإبادة الجماعية. وكان يرد على اليهود الصهاينة بأنهم «لو كانوا يمتلكون قلباً لوقفوا بالتأكيد مع الفلسطينيين وناصروا قضيتهم». يمكن اعتبار موقف فينكلستين المعيار ليهودي فقد عدداً من أفراد أسرته في المحرقة، وهو يرفض اليوم أن يتحوّل من ضحية إلى جلّاد ومن مضطهَد إلى مضطهِد للآخرين بحكم واقعية القوة وامتلاكها.
صحيح أنّ الأكاديمية معادية للصهيونية، انتُخبت في عام 2009 رئيسة «محكمة هوسرل حول فلسطين» التي تقوم على تجمّع المثقفين الأميركيين المؤيدين للقضية الفلسطينية بغرض حشد شروط سلام دائم وعادل بين «إسرائيل» وفلسطين، وأنّ موقفها معادٍ لسياسات العنف المختلفة التي يمارسها الصهيوني على الفلسطينيين، لكنّها للأسف تُعدّ اليوم خيبة أمل في تاريخ التضامن الأكاديمي والغربي مع القضية الفلسطينية. هنا بالتحديد يجدر الإعلان والتوضيح بأن هذا الحكم على الباحثة الحائزة «جائزة أدورنو» (الفيلسوف تيودور أدورنو من مؤسسي «مدرسة فرانفورت للنظرية النقدية»)، لا يأتي متسرّعاً ولا عاطفياً. هناك عدد من النقاط يجب الإضاءة عليها في مقال بتلر الذي قد يبدو بالنسبة إلى كثيرين من الغرب -وبعض العرب أيضاً - أنه منطقي ونقدي وعادل: أولاً المساواة بين حركة «حماس» والكيان الصهيوني، بين الفلسطينيين والصهاينة، بين المستعمَر والمستعمِر، بين الضحية والجلاد؛ وهو شيء مستغرب أن يصدر عن باحثة تنادي بالعدالة والحرية وتحرير الجسد من السلطة والقمع المجتمعي والنفسي. العدالة لا تعني فقط المساواة المجرّدة من دون إدراك للصراع التاريخي القائم بين الطرفين، كما أنّها في مفهومها الفلسفي اليوناني تُعد فضيلة أخلاقية عند أفلاطون، والدولة هي التي تضمن ممارستها وتطبيقها عبر القانون، لكنّ العدالة وفقاً لنقدٍ مهم من أرسطو لا تقف عند المساواة فقط لأنها «فضيلة مدنية قد تلحقها أخطاء». لذلك تكون العدالة الحقيقية في الإنصاف، أي إعطاء كل فردٍ حقه بعيداً عن القانون الذي تضعه وتشكّله وتمتلكه السلطة/ القوة الحاكمة، وهو الشيء الذي ينقص بتلر. لا يمكن لبتلر ادعاء العدالة في طرحها للصراع الفلسطيني الصهيوني بوصفهما طرفين متساويين ومحاسبتهما على هذا الأساس. المحتل المنتصر بواقع قوته العسكرية وعتاده الحربي وسيطرته على كثير من المؤسسات الإعلامية والأكاديمية عالمياً، هو الذي يمتلك رواية التاريخ وفقاً للفيلسوف اللغوي نعوم تشومسكي وغيره من المفكّرين والمؤرّخين، بينما الفلسطيني الذي سُلبت منه أرضه - وما زالت تُقضم - وارتُكبَت بحقه مجازر الطنطورة ودير ياسين لرفضه التخلي عن مدنه وقراه في النكبة، والذي كان يبيع بقرة مقابل بارودة يدافع بها عن بيته، ويقاوم اليوم لكتابة تاريخه الشفهي، لا يتساوى على أي نحو مع الكيان الصهيوني. لا يمكن المساواة بين أطنان من المتفجرات والصواريخ التي تنزل على المستشفيات والجوامع والكنائس وقتل أكثر من خمسة آلاف فلسطيني في غزة وقمع الأسرى الفلسطينيين وترهيبهم بهدف الإبادة واستعادة «هيبة» الكيان المتوحش، وبين العملية التي جاءت بفعل المقاومة والتحرر. ثانياً، هناك تناقض واضح في طرح المنظّرة لأفكارها وموقفها. تقرّ بأن الكيان العبري على أرض فلسطين هو احتلال واستعمار قائم على سياسة الفصل العنصري وإبادة الفلسطينيين وقضم أراضيهم: «قصف بلا هوادة، وقتل الناس من كل الأعمار في منازلهم وفي الشوارع، والتعذيب في سجونهم، وأساليب التجويع في غزة وسلب المنازل. وتتم ممارسة هذا العنف بأشكاله المتعددة ضد شعب يخضع لقواعد الفصل العنصري والحكم الاستعماري وانعدام الجنسية». لكنها في الوقت نفسه، وللمفارقة، لا تجد أنّ من حق المقاومة الفلسطينية الرد على هذا العنف الذي يرتكبه الصهيوني منذ أكثر من سبعين عاماً. بناءً عليه، تصف الأكاديميين والمثقفين الذين يستندون إلى تاريخ العنف الصهيوني لـِ«تبرئة حماس»، بأنهم «يستخدمون شكلاً فاسداً من التفكير الأخلاقي لتحقيق هذا الهدف». تقصد بَتْلر الأكاديميين في «جامعة هارفرد» الأميركية بقولها: «عندما تصدر لجنة التضامن مع فلسطين في «جامعة هارفرد» بياناً تزعم فيه أنّ «نظام الفصل العنصري هو المسؤول الوحيد» عن الهجمات القاتلة التي تشنها «حماس» على أهداف إسرائيلية، فإنها ترتكب خطأً. ومن الخطأ توزيع المسؤولية على هذا النحو، ولا شيء ينبغي أن يعفي «حماس» من المسؤولية عن أعمال القتل البشعة التي ارتكبتها». ثالثاً، هناك إشكالية في الانطلاق من منظور العنف ورفض العنف بالمطلق بوصفه المقياس السحري لنقد الصراع الفلسطيني الصهيوني، فهل يتساوى لغوياً وتطبيقياً «العنف» الصادر من الطرفين؟ ألا يجدر بالمنظّرة والأكاديمية التنبّه إلى أن الاختلاف الحاد بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال على جميع الأصعدة (بدءاً من الحق والسلاح ومجموعات اللوبي والتمويل المادي وغيرها) يفرض على استعمالات اللغة والمصطلحات دقة أكثر وإدراكاً أعمق يتناسبان مع حجم القضية؟ إن كانت «حماس» قد ارتكبت عنفاً في عمليتها وفي مقاومتها للاحتلال، فماذا يمكن وصف حجم «العنف» المستمر ودرجته، والذي يمارسه الصهيوني وحكومته؟
صرّحت عام 2006 بأنّها ترى «حزب الله» و«حماس» ضمن الحركات الاجتماعية التقدمية


يحاول الغرب المدافع عن الصهيونية ــ كفكرة وممارسة ــ والداعم لها بالمال والخطاب والسلاح، السيطرة على الرأي العام عبر وسائل الإعلام العالمية والجامعات والمؤسسات البحثية والأكاديمية والشركات التجارية والفنية والرياضية الكبرى (أندية كرة القدم وشركات المصارعة التي ضغطت على الرياضيين «الموظفين» لديها بدعم الاحتلال الإسرائيلي)، ويستخدم «اللوبيات الصهيونية» من طلّاب جامعيين وبلوغرز وصانعي محتوى ومؤثرين في منصات التواصل الاجتماعي. وذلك أمر بديهي شهده وتنبّه له كثير من المثقفين والمؤثرين العرب ونجحوا نسبياً في رصده والرد عليه والإشهار به. لكن ما تفعله جوديث بتلر في موقفها اليوم وتبريرها «المنطقي» و«النقدي» له، يشي بمرحلة جديدة في الدعاية الصهيونية منذ بدء الطوفان وهي تنبّه العدو والغرب إلى حجم التعاطف والتضامن مع القضية الفلسطينية الذي يمتد ويتوسع مع وجود الإعلام البديل وتذاكي صانعي المحتوى والخبر على الخوارزميات الرقمية التي تحجب الحقيقة عن العالم. ومن أجل ذلك، قد يكون العدو اليوم قد بدأ باستخدام طريقة جديدة لمخاطبة المثقفين والأكاديميين الغربيين الذين يميلون إلى استخلاص موقفهم الخاص عبر التحليل المنطقي والمراجعة التاريخية للصراع، فهؤلاء إن كانوا باحثين وأساتذة في الأصل غير معنيين بمتابعة الصراع، سيميلون مع استمرار الإبادة والتطهير في غزة، إلى التعاطف مع الشعب الفلسطيني. من أجل هؤلاء الذين بدأوا يعلنون تضامنهم من الجامعات الأميركية والأوروبية، جاءت لغة جديدة لمخاطبتهم: إن كنتم تتعاطفون من الفلسطينيين، لا مشكلة، لكن حافظوا على إدانة «حماس» والمطالبة «باختفائها» وعدم التبرير لها بالمقاومة والعنف حتى في وجه آلة الحرب. من أجل نجاح الخطاب الجديد، كان اختيار فيلسوفة الجندر والهوية، اليهودية المعادية للصهيونية التي تحظى باحترام في الأوساط الأكاديمية العربية لموقفها السابق باعتبار حزب الله وحماس «حركات اجتماعية تقدمية».