ولّى الزمن الذي كانت الشركات والعلامات التجاريّة العالميّة تقف على الحياد في أحداث سياسية واجتماعية وبيئية وثقافية شائكة، متجنبةً اتخاذ مواقف قد تُغضب قسماً من مستهلكيها وتدفعهم إلى مقاطعتها. باتت الشركات، حتى لو لم يكن لها أيّ رابط بالأحداث أو المتداخلين فيها، مطالبةً بإبداء الرأي، وبلعب دورٍ فاعل في توعية الرأي العام والتأثير في مجرى التطوّرات، بحكم إمكاناتها المالية والتسويقيّة والترويجية الضخمة. مسار، لم تسلكه الشركات طوعاً، بل فُرض عليها مع تطوّر العمل النقابي وتنامي تأثير المجتمع المدني والعولمة وما رافقها من تزايد وعي المستهلكين، الذين أدركوا حجم دورهم وقدرتهم على الضغط.وتُظهر دراسات حديثة أنّ المستهلك تحوّل من مجرد متلقٍّ خاضع لتأثيرات الشركات وإعلاناتها، التي تتحكم بقسم كبير من خياراته وتوجّه نمط حياته في كثير من الأحيان، إلى مؤثّر فاعل في مسار الأحداث، وقادر على فرض سياسات معيّنة على الشركات. ويبرز في هذا السياق المستهلكون الشباب الذين يعرفون بالجيل Z (مواليد منتصف التسعينيات حتى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين) وجيل الألفية Millenials (مواليد مطلع الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي).
تبيّن الكثير من الأبحاث، وإن بنسب متفاوتة، أنّ غالبية المستهلكين يفضّلون الشراء من شركات تتخذ مواقف من قضايا تعنيهم وتعكس قناعاتهم، وأنّ نسبة قد تصل إلى أكثر من نصف المستهلكين أحياناً يعبّرون عن استعدادهم لمقاطعة شركة بسبب مواقف قد تتخذها ولا تتناسب وقناعاتهم. واللافت أنّ كثيراً من المستهلكين يعتبرون أنّ التأثير في خيارات الشركات العالميّة أسهل من التأثير في خيارات الحكومات، وأنّ للشركات، تحديداً العالميّة، سطوة على الحكومات، وهي قادرة إذا ما اتخذت مواقف معيّنة أن تُحدث فرقاً في مواقف السلطات السياسية.
من هنا تبرز أهمية كلّ فرد، أينما وُجد، وقدرته على أن يكون فاعلاً في مجريات الأحداث العالميّة كالحرب الدائرة في غزة حالياً. ومن هذا المنطلق يعتبر الصمت جريمة، لأن رفع الصوت في عالم اليوم، مع كل الإمكانات التي توفرها التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، له وقع في ميدان المعركة الفعليّة.
من أبرز الشركات العالميّة التي اتخذت موقفاً من الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، شركة SHEIN الصينية العملاقة المختصة بتجارة التجزئة الإلكترونية في مجال الأزياء. خطوة الشركة الأولى بدأت بتقديم حسومات على مبيع علم فلسطين عبر موقعها، فيما حجبت علم إسرائيل نهائياً عن الموقع. كما قرّرت قطع كل تعاون لها مع مؤثرين إسرائيليين، إلى أجل غير مسمى كما ظهر في الرسائل الإلكترونية التي أرسلتها الشركة إليهم. وأوقفت الشركة كل عمليات التوصيل المجانية إلى إسرائيل، فيما كانت بعض الشحنات التي استلمها مستهلكون إسرائيليون مغلّفة باللونين الأحمر والأخضر الذي اعتبر الإسرائيليون أنه يرمز إلى ألوان العلم الفلسطيني.
التضامن مع فلسطين أدى إلى نشوب خلاف تطوّر إلى دعوى قضائية من Starbucks ضد نقابة عمالها Starbucks Workers United التي تمثل حوالى 9 آلاف عامل في أكثر من 360 متجراً أميركياً، بعدما أدانت نقابة العمال في بيان على موقع X الاحتلال الإسرائيلي والإبادة الجماعية التي يواجهها الفلسطينيون. وطالبت Starbucks في الدعوى التي رفعتها بمنع نقابة عمالها من استخدام اسمها وشعار مشابه لشعارها، فيما ردّت النقابة بدعوى مضادة متهمة الشركة بتشويه سمعة النقابة عبر التلميح إلى دعمها للإرهاب.
ورغم أنّ البيان حُذف بعد 40 دقيقة من نشره، وادعاء النقابة أنّ موظفين نشروا البيان من دون العودة إلى مسؤولي النقابة، إلا أنه لاقى صدى واسعاً في الولايات المتحدة، وتُرجم غضباً من مؤيدي إسرائيل الذين دعوا إلى مقاطعة الشركة، وأمطروا موظفيها بالاتصالات والتهديدات والتصرفات العدائية وفق ما أكدته Starbucks.
في دبلن، عاصمة إيرلندا، رفع أحد متاجر شركة LUSH العالميّة الرائدة في مجال مستحضرات التجميل، لافتةً مكتوب عليها قاطعوا إسرائيل. وخلافاً للعديد من الشركات حول العالم التي تحاول التنصّل من بعض المواقف والأفعال، وخصوصاً تلك التي لا تُرضي اللوبي المؤيد لإسرائيل، لم تتبرّأ الشركة من الفعل، واعتبرت في بيان لها أنها «شركة متنوعة ولدينا موظفون من جميع الأعراق والأديان الذين قد تختلف وجهات نظرهم وآراؤهم الشخصيّة». وفيما تداعى مؤيدو إسرائيل إلى الدعوة لمقاطعة الشركة، ردّ روّاد التواصل الاجتماعي في العالم العربي بحملة مضادّة لدعم الشركة.
محاولات تحدّي الترهيب الإسرائيلي وداعميه لا تزال مستمرة رغم المخاطر العديدة التي يواجهها الكثير من داعمي القضية الفلسطينية والتي تطالهم في رزقهم وأعمالهم وتجبر العديد منهم على الاستقالة أو الاعتذار والتبرير وأحياناً الفصل.
من أبرز الذين دفعوا ثمن مواقفهم، بادي كوسغريف، المدير التنفيذي لقمّة الويب التي تعد من أبرز المنتديات العالميّة للتكنولوجيا، إذ أُجبر على الاستقالة من منصبه بعدما كتب تغريدة على منصة X قال فيها إن «جرائم الحرب هي جرائم حرب حتى عندما يرتكبها الحلفاء»، معبراً عن صدمته من خطاب وسلوك قادة الحكومات الغربية دعماً لإسرائيل.
ورغم أن كوسغريف عاد ونشر اعتذاراً عبّر فيه عن أسفه لتسبّبه في أذى عميق في توقيت بيانه ومحتواه، إلا أنّ ذلك لم يحل دون وقف حملة المقاطعة للمؤتمر المقرر أن ينعقد في لشبونة، من 13 إلى 16 تشرين الثاني الجاري. ومن أبرز من قرر مقاطعة المؤتمر شركتا غوغل وميتا.
كذلك أقيلت وكيلة المواهب الأميركية الليبية الأصل مهى الدخيل من المجلس الداخلي لوكالة CAA بعد منشور لها على تطبيق إنستغرام قالت فيه «ما يجرح القلب أكثر من أن تشهد إبادة جماعيّة، أن تشهد إنكار العالم لوجود إبادة جماعيّة». غير أن الدخيل التي يبدو أنها كانت بحاجة إلى درس حول كيف تكون الإبادة الجماعيّة، سرعان ما تراجعت عن موقفها بجبن واعتذرت بعدما شكرت «أصدقائي اليهود الذين علقوا على المنشور وعلموني أكثر ومسحته تلقائياً. أعتذر عن الألم الذي تسببت به». علماً أن الدخيل تعمل وكيلة أعمال لعدد من نجوم هوليوود المعروفين بدعمهم اللامحدود لإسرائيل كتوم كروز وناتالي بورتمان والمغنية مادونا...
ضغوط لطرد الموظفين الذين يُبدون دعمهم لفلسطين أو يندّدون بالجرائم الإسرائيلية


ديناميكية اللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل ومدى تأثيره أشبعت بحثاً، وتظهر فعاليتها عبر بعض الأمثلة التي أوردناها. لكن في المقابل، فإنّ حملة مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها وسحب الاستثمارات منها المعروفة بـ BDS تخوض معارك شرسة للضغط على الشركات العالميّة وفضح ممارسات إسرائيل الجرميّة وتوعية الرأي العام العالمي.
لكنّ حملة المقاطعة تعتمد في عملها على مبدأ المقاطعة المستهدفة التي تعني التركيز على عدد محدد من الأهداف الأكثر تواطؤاً والأكثر أهمية من أجل مضاعفة الأثر، لا على المقاطعة غير المستهدفة، كما ورد في صفحتها على الفايسبوك منذ أيام. وفي هذا السياق يشير أحد الفيديوهات للحملة إلى أنّ نشر أسماء عدد كبير من الشركات حول العالم التي يجب مقاطعتها عمل غير دقيق وغير مسؤول، ويؤدي إلى بعثرة جهود المقاطعة، وإلى حالة من الإحباط، كما ولو أنه من المطلوب مقاطعة كل شركات العالم.
في هذا الإطار أطلقت حملة المقاطعة قائمة تشمل جانبين. الأول هي الحملات التي كانت شملتها المقاطعة قبل 7 تشرين الأول وأهمها التي طالت شركات PUMA للألبسة الرياضية وسلسلة متاجر Carrefour وHP للكمبيوترات والبرمجيات، إضافة إلى كلّ المنتجات الإسرائيلية أينما وجدت. وتشجّع الحركة مواصلة الضغط على Domino's Pizza و McDonald's و Pizza Hut وBurger King وPapa John's لأنّ فروع هذه الشركات في إسرائيل قامت بدعم جرائم إسرائيل، وبالتالي على الشركات الأم أن تعتذر عمّا قامت به فروعها وسحب علاماتها التجارية من إسرائيل وفقاً للحملة.
في تصرّف يعكس عقلية الترهيب التي ينتهجها العدو وداعموه لكمّ الأفواه وترهيب حتى الأشخاص العاديين، ظهر موقع يحمل اسم «موظفون معادون لإسرائيل» anti-israel-employees.com، يهدف إلى كشف موظفي الشركات الذين يُبدون دعمهم لفلسطين أو يندّدون بالجرائم الإسرائيلية، والضغط على الشركات التي توظّفهم لطردهم. نوايا الموقع ومن يقف خلفه لناحية ترهيب الرأي العام العالمي تبدو واضحة من أنّ الغالبية الكاسحة من الموظفين حول العالم الذين نُشرت أسماؤهم وبياناتهم اقتصرت منشوراتهم على وسوم مثل غزة تحت القصف أو مجرّد التطرّق إلى الأزمة الإنسانية في القطاع.