بعد ساعات على عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، كان واضحاً أنّ الرأي العام الغربي دُجِّن سريعاً بفعل الروايات الإسرائيلية الكاذبة عمّا حدث فعلاً. ادّعوا أنّ المقاومة «قطعت رأس 40 رضيعاً»، وأنّ «نساءً اغتُصبن أمام أطفالهنّ الذين أُحرقوا داخل الأفران». استدعوا عدّة البروباغندا وفظائع وأهوال لم تخطر حتى على بال المخرج الأميركي المتصهين كوينتن تارانتينو (الداعم لإسرائيل ويعيش في تل أبيب). حمل الإعلام الغربي هذه الدعاية الحربية وأعاد نشرها على مدار الساعة على الشاشات. الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه تكلّم عن «الفظائع التي لحقت بالأطفال الإسرائيليين». جُيّش الغرب بأكمله، وانطلقت المذبحة ضدّ سكان غزة. الحقيقة هي أولى ضحايا الحرب. وحروب اليوم هي مزيج معقّد من الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية والدعائية. اللجوء إلى القوة وحدها لم يكن كافياً دوماً لتحقيق نصر واضح. سرعان ما اكتشف البشر أهمية الجبهة الدعائية. البروباغندا، مادة سحرية يمكن أن تحوّل الهزيمة إلى انتصار.

JoeBakal

إنه اليوم الـ 27 للحرب الإسرائيلية على سكان قطاع غزة. آثار القصف ملأت الأرض. أحياء سُوّيت أرضاً، وعائلات بأكملها شُطبت من السجلات. استهداف الأطفال صار أمراً عادياً. وكيان الاحتلال يدّعي أنّ الأمر يحدث نتيجة تمركز عناصر «حماس» بين المدنيين. إنّهم مجرّد «أضرار جانبية» إذاً! يمكن للعالم الحرّ تقبّل ذلك. وبحسب ساكن البيت الأبيض، عدد الشهداء في القطاع مُضخّم، ثم إنّ سكان القطاع ليسوا بشراً، هم «وحوش بشرية» على حدّ تعبير وزير حرب العدو يؤاف غالانت.
المُلاحظ في ما يقوله قادة الغرب حول حرب إسرائيل على غزّة، إنّ كلامهم موجّه بشكل يحاول طمأنة الذات الغربية. هذه الذات أُريد لها أن تبقى أسيرة التضليل الحربي، الذي يتركّز على أنّ لا شيء غير عادي يحدث في غزة. ما يرونه من فظائع مصوّرة استطاعت أن تنجو من الخوارزميات ووصلت إليهم، هي مجرّد «أكاذيب» تنشرها «حماس» التي «تسيطر على القطاع وتتحكّم بكل سردية الأحداث والمشهد». الحركة هي ذلك الخطر الذي يجب إزالته مهما كلّف الأمر من أطفال ونساء ومسنين. المهم ألّا تستيقظ الذات الغربية ممّا يفعله جيش الاحتلال، وأن تمرّ المذبحة.
عموماً، تُستخدم البروباغندا للترويج لأجندة أو وجهة نظر معينة. يمكن أن تختلف الأهداف النهائية لكلّ حرب دعائية، ولكن الأهداف المشتركة تشمل تشكيل آراء الناس، أو إقناعهم بدعم قضية معينة أو مرشح سياسي، أو تشجيعهم على التصرف بطريقة معينة. في الحرب، تُستخدم الدعاية غالباً لتشكيل آراء الناس حول العدو. ويمكن استخدامها لجعل الناس يدعمون المجهود الحربي، أو لتثبيطهم عن دعم الطرف الآخر. وغالباً ما تعتمد الدعاية الحربية على المعلومات المضلّلة والشتائم لتحقيق أهدافها.
مع مرور الأيام الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، بدا أنّ شيئاً ما تغيّر في الرأي العام الغربي. الرواية الإسرائيلية بدأت تنهار، وتبيّن أنّ قصة الـ 40 طفلاً مجرّد كذبة، قبل أن تعتذر شبكة «سي. أن. أن» عن نشرها. اتضح أنّ النسبة الأكبر من القتلى المدنيين الإسرائيليين في هجوم «حماس» كانت نتيجة قصف قوّات الاحتلال منازل المستوطنين في بئيري وغيرها من مستعمرات غلاف غزة. معلومات نشرتها صحيفة «هآرتس» في نسختها العبرية فقط، وكشفت في مقابلة مع رجل يُدعى توفال كان يعيش في كيبوتس «بئيري» أنّه «ليلة الإثنين، اتخذ القادة الميدانيون في الجيش الإسرائيلي قرارات صعبة، بما في ذلك قصف المنازل بجميع سكانها من أجل القضاء على الإرهابيين مع الرهائن... بعدها أكمل الجيش الإسرائيلي الاستيلاء على الكيبوتس. كان الثمن باهظاً: قُتل ما لا يقل عن 112 شخصاً من البئيريين». كذلك، انتشرت مقابلة المستوطنة ياسمين بورات مع إذاعة «كان» العبرية للمرّة الأولى في 15 تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، وقد كشفت أنّ مقاتلي «المقاومة» عاملوها هي والمدنيين الإسرائيليين الآخرين «بطريقة إنسانية»، مضيفةً أنّ «قوات الأمن الإسرائيلية قتلت بلا شك عدداً كبيراً من الإسرائيليين».
روّجت أنّها حققت نصراً بدخولها شارع صلاح الدين من خاصرة غزة التي لا تحتوي سوى أراضٍ زراعية!


مرّت الساعات، وبدأت الوحشية الإسرائيلية في استهداف المدنيين تتعاظم. طريق في غزة قال عنه جيش الاحتلال إنّه آمن لنزوح السكان من شمال القطاع إلى جنوبه، تعرّض لقصف صاروخي راح ضحيته العشرات. ثم، حصلت الفاجعة. استُهدف «مستشفى المعمداني» بغارة إسرائيلية قضت على المئات من المدنيين العزّل، وانفجر الشارع العربي أمام السفارات الأميركية والإسرائيلية في الدول المطبّعة. الرأي العام الغربي لم يصدّق ما شاهده، فخرج جيش الاحتلال برواية كاذبة تؤكّد أنّ صاروخاً أطلقته «حركة الجهاد الإسلامي» فشل بُعيد إطلاقه وسقط في المستشفى. رواية لم تُقنع أحداً، ما اضطر بايدن إلى التدخّل شخصياً، قائلاً: «يبدو أنّ الطرف الثاني (حماس) من قام بذلك». حتى تقرير صحيفة «نيويورك تايمز» الأخير في 24 من الشهر الماضي، توصّل إلى نتيجة مفادها أنّ الفيديو الذي نشره جيش الاحتلال في ما يخص المستشفى يُظهر صاروخاً قادماً من «إسرائيل»، وليس من غزة. وزعم أنّ الصاروخ لم يسقط حتى بالقرب من المستشفى بل على بُعد ميلين منه، وأنه قد لا يكون مرتبطاً بانفجار المستشفى، تاركةً الأمر إلى مجهولٍ ما.
من تابع مقابلات الأسيرات التي أطلقتهن المقاومة بسبب أوضاعهن الصحية، وما تحدّثن عنه عن معاملة حسنة تلقّونها، اصطدم بصور وفيديوات أسرى فلسطينيين جرّدهم جيش الاحتلال من ملابسهم كافة وضربهم مع طبع أرقام على ظهورهم. وهناك فيديو انتشر أخيراً يُظهر جنود الاحتلال يسحلون جثة شخص من القطاع. هذه الأمور وغيرها من استهداف للمدنيين في غزة، أنهى الرواية الإسرائيلية المفبركة. يمكن ملاحظة أنّه في الأيام القليلة الماضي، يعمد كيان الاحتلال وقوّاته إلى إعادة إحياء دور الضحية الذي خسره، واستعادة ولو صورة لنصر لم يستطع أن يحققه حتى الآن. على سبيل المثال، تُعيد حسابات كيان الاحتلال الرسمية على منصة X (تويتر) نشر فيديوات من عملية «طوفان الأقصى» مع تذكير المشاهد بما حدث ورواية قصة كل شخص مع ذكر اسمه وما كان يفعله في الحياة. كذلك، دخلت القوات الصهيونية شارع صلاح الدين من خاصرة غزة التي لا تحتوي سوى أراضٍ زراعية، فقط لمجرد صنع صورة النصر من التهاوي أكثر، ولزرع فكرة أنّ دباباته صارت في قلب القطاع المحاصر.