رام الله | بالتزامن مع استمرار العدوان على قطاع غزة، والذي يواصل جيش الاحتلال في خلاله محاولاته تهجير الفلسطينيين بالقوة من خلال ارتكاب جرائم إبادة بحقّهم، يستحضر الفلسطينيون في مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة، المحاولة نفسها التي عايشوها في تموز الماضي، حين هجّر العدو المئات من منازلهم، بعد أن هدّدهم بقصفها فوق رؤوسهم ورؤوس أطفالهم. ويأتي ذلك فيما لا يكاد يمرّ أسبوع من دون أن يشهد المخيم اقتحاماً إسرائيلياً كبيراً، يتكرّر أحياناً مرّتين أو ثلاثاً في الأسبوع الواحد، في محاولة لتهشيم إرث المخيم، وتحطيم عناصر قوته التي لم يستطع العدو إلى الآن التخلّص منها أو حتى احتواءها على يد السلطة الفلسطينية، خصوصاً بعدما تحوّل هذا المكان من قلعة للمقاومة، وبيئة حاضنة لمقاوميها، إلى نموذج ملهم، استطاع نقل تجربته بالفعل إلى أماكن مختلفة، سواء عبر تنفيذ العمليات الفدائية، أو تشكيل المجموعات المسلّحة المماثلة لـ«كتيبة جنين».وشنّ جيش الاحتلال، في تموز الماضي، حملة «البيت والحديقة» على المخيم، والتي أراد من خلالها استعراض فائض قوته أمام مجموعات صغيرة من المقاومين الذين يملكون بنادق وقنابل محلّية الصنع. هكذا، زجّ العدو، آنذاك، بمئات الآليات العسكرية وآلاف الجنود في الميدان، مستعيناً أيضاً بالطائرات المُسيّرة والمروحية في عدوان كان الأوسع من نوعه في الضفة في آخر 20 عاماً، وترافق مع ارتفاع مستوى التحريض على المخيم في الإعلام العبري، ومن قِبل قادة جيش الاحتلال، من خلال وصفه بأنه تحوّل إلى قطاع غزة جديد في الضفة. وإذ فشل ذلك العدوان في تحقيق أهدافه، فإن إسرائيل تسعى اليوم إلى فرض حرب استنزاف على المقاومين في جنين، سواء لناحية إنقاص ما في حوزتهم من ذخيرة ورصاص وعبوات بالاقتحامات المتكرّرة، أو لناحية إنهاك البيئة الحاضنة التي تُستخدم ضدّها كلّ أشكال التدمير والقتل.
وعلى طريق تحقيق تلك الأهداف، عمد جيش الاحتلال، فجر أمس، إلى تدمير البنية التحتية من شوارع ومؤسّسات ومرافق عامة في مخيم جنين. كما لجأ إلى قطع الكهرباء وشبكة الاتصالات والإنترنت عنه، فيما بدأ يعتمد بشكل أساسي على الطائرات لشنّ غارات واغتيال المقاومين. وكان العدوان بدأ منذ ليل الثلاثاء - الأربعاء، حين اقتحمت قوات خاصة مدعومة بآليات عسكرية منطقة الجابريات المحيطة بالمخيم، وداهمت منزل أمين سر حركة «فتح» في جنين، عطا أبو أرميلة، واعتقلته برفقة نجله بعد الاعتداء عليهما بالضرب العنيف داخل المنزل، ومن ثم انسحبت من المنطقة تحت رصاص المقاومين، في محاولة لإيهام هؤلاء بانتهاء المهمة، قبل أن تعاود الاقتحام بأعداد كبيرة من الآليات والجنود.
وبدت لافتة عودة جيش العدو، في بداية الاقتحام، إلى مدخل المخيم، والذي كان قام قبل يومين فقط بهدم أسواره، ليحاول هدم ما تبقّى منها، في ما يدلّ على تعاظم النزعة الانتقامية لديه. وبحسب المصادر المحلية، فقد قصفت طائرة إسرائيلية بصاروخين منطقة جورة الذهب داخل مخيم جنين حيث أصابت منزلاً، بينما جرى تهشيم البنية التحتية وتجريف الشوارع بواسطة الجرافات، فضلاً عن تحويل العمارات السكنية إلى نقاط عسكرية، ونشر القنّاصة في المباني. وترافق هذا العدوان مع استهداف مستشفى جنين الحكومي بوابل من قنابل الغاز السام المُسيّل للدموع، ما أدّى إلى إصابة العديد من المرضى والأطباء والعاملين في المستشفى بالاختناق، علماً أن العدو حاول قبل يومين هدم أسوار المستشفى أيضاً. وفي خلال ذلك، سُجّلت اشتباكات مسلحة عنيفة استخدم فيها المقاومون العبوات الناسفة وصليات الرصاص، في حين لجأ جيش الاحتلال كالعادة إلى استخدام الطائرات المُسيّرة الهجومية في القصف، ما أدّى إلى إصابة 3 مواطنين، أُعلن لاحقاً استشهادهم.
ولا يبدو المشهد مختلفاً في بقية أنحاء الضفة، حيث يسابق العدو الزمن في تصعيد حربه على هذه الأخيرة، مستغلاً فرصة العدوان على غزة. وفي هذا السياق، يأتي تكثيف الاقتحامات في كلّ المدن والبلدات والمخيمات، واستسهال إطلاق النار بإيعاز من قادة اليمين المتطرّف، فضلاً عن اعتداءات المستوطنين الذين يعيثون خراباً، بالقتل والحرق والتدمير. وفي خلال 24 ساعة، سُجّل استشهاد 7 مواطنين برصاص جيش الاحتلال في نابلس وطوباس والخليل، ليرتفع عدد الشهداء الإجمالي في الضفة منذ بدء العدوان إلى 137 شهيداً، بينما شهدت مناطق عديدة فجر الأربعاء اقتحامات واسعة اندلعت خلالها مواجهات عنيفة أصيب فيها عشرات الشبان بالرصاص الحي. وبالتوازي مع ذلك، استمرّت حملة الاعتقالات الواسعة في صفوف عناصر حركة «حماس» وكوادرها والنشطاء الميدانيين، لتطاول، ليل الثلاثاء - الأربعاء، نحو 70 مواطناً، متركّزة في القدس وبلداتها وبيت لحم، فيما توزّعت بقية الاعتقالات على محافظات الخليل وقلقيلية وطولكرم وجنين ونابلس ورام الله. وبهذا، ترتفع حصيلة عمليات الاعتقال، والتي تترافق مع اعتداءات وتنكيل وتهديد بحقّ المعتقلين وعائلاتهم وتخريب وتدمير لبيوتهم، منذ السابع من تشرين الأول المنصرم، إلى 1830 حالة، لا تشمل المعتقلين من غزة، بمن فيهم العمال المحتجزون حتى اليوم، ومن جرى اعتقالهم من الضفة لاحقاً. ويُشار إلى أن قوات الاحتلال أصدرت، خلال شهر تشرين الأول، 1034 أمر اعتقال إداريّ، من بينها 904 أوامر جديدة، أي صدرت بحق معتقلين جدد، فيما بلغ عدد أوامر التجديد 130، علماً أن جلّ أوامر الاعتقال الإداري بعد 7 أكتوبر، والتي بلغت 872، كانت بحقّ من اعتُقلوا خلال الحملات الأخيرة في الضفة.
بدا لافتاً أن جيش الاحتلال يسابق الزمن في تصعيد حربه على الضفة


في هذا الوقت، لا تزال الضفة تشهد مسيرات وتظاهرات في مراكز المدن وعلى نقاط التماس والحواجز العسكرية، فيما عمّ الإضراب الشامل كلّ أرجائها، أمس، شاملاً المحالّ التجارية والمؤسسات الحكومية والعامة والبنوك والمدارس. كذلك، خرجت تظاهرات من محافظات الضفة كافة، وتوجّهت إلى نقاط التماس مع الاحتلال، بعدما كان سجّل مساء الثلاثاء مسيرات مندّدة بمجزرة جباليا، ومواجهات مع قوات الاحتلال استشهد خلالها عبدالله محمد مقبل (16 عاماً) في بلدة بيت أمر شمال الخليل. وعلى رغم الهجمة المسعورة في الضفة، وفصل المدن والبلدات بعضها عن بعض بعشرات الحواجز العسكرية، إلا أن أعمال المقاومة لا تزال مستمرة؛ إذ بلغ عددها حتى ظهيرة الأربعاء 1767، من بينها عمليتا إطلاق صواريخ، و105 عمليات نوعية، و1193 مواجهات بأشكال مختلفة، و349 تظاهرة ومسيرة، نجم عنها قتيلان في صفوف الاحتلال ومستوطنيه، وأكثر من 40 إصابة.