للغرابة، شكّل «المسلسل الإسرائيلي الطويل» من المجازر المتواصلة في غزة، مادّة استقطاب حادّ في أروقة المنظّمات الأممية والمنابر الدولية، منذ عملية «طوفان الأقصى»، في السابع من أكتوبر. ففي مقابل محور تقوده حكومات الغرب، «تفنّن» في إبداء وجوه الدعم والتضامن مع كيان الاحتلال، انبرى قادة دوليون لإدانة الممارسات الإسرائيلية في القطاع، وفي طليعتهم الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى جانب حكومات «بلدان الجنوب العالمي»، ولا سيما في أميركا اللاتينية - كولومبيا وبوليفيا وتشيلي -، والتي لم تتردّد في وصْف ما يجري في غزة بـ»الإبادة الجماعية»، فيما وجّه آخرون اللوم إلى السياسات الأميركية الداعمة لإسرائيل، كما فعل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. هذه المواقف «المتقدّمة» في التنديد بعدوانية سياسات كلّ من تل أبيب وواشنطن، والتي بدأت تلقى أصداء حتى داخل دول حليفة للأخيرة، ولديها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، كالأردن، الذي أعلن قبل ساعات سحب سفيره من الأراضي المحتلّة، بدأت تنسحب أيضاً على مواقف مسؤولين في الأمم المتحدة، كان آخرهم مدير مكتب نيويورك للمفوّضية السامية لحقوق الإنسان، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، كريغ مخيبر، الذي استقال، احتجاجاً على تعامل الهيئات الأممية مع «الإبادة الجماعية» في غزة.

«عراك» غوتيريش- إردان: «سجال الشرعية الدولية» يَتجدّد
لعلّ المشهد الذي احتلّ صدارة الاهتمام على هذا الصعيد أخيراً، هو «الاشتباك اللفظي» بين سفير كيان الاحتلال لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، والأمين العام للمنظمة الدولية، أنطونيو غوتيريش، حين أعرب الأخير، خلال تقديم إحاطته أمام مجلس الأمن في شأن الأوضاع في غزة، عن قلقه في شأن «الانتهاكات الواضحة للقانون الدولي الإنساني» في القطاع المحاصَر، معتبراً أن «هجوم حماس لم يأتِ من فراغ»، ومندّداً بما سمّاه «العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني»، وهو أمر أزعج إردان، الذي سارع إلى مطالبة غوتيريش بالاستقالة، بدعوى أنه «يبدي تفهّماً للقتل». هذا الجدال، المتزامن مع «حرب دبلوماسية» بين واشنطن وحلفائها من جهة، وموسكو وبكين من جهة أخرى، جاء على وقْع إخفاق الولايات المتحدة في تمرير قرار داخل مجلس الأمن يدين حركة المقاومة الفلسطينية، ونجاح الفريق المناهض لها، بتأييد معظم البلدان العربية، باستثناء العراق وتونس، في تمرير قرار غير ملزم عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية.


ووسط ذلك المناخ من احتدام المواقف على «الجبهة الدبلوماسية»، استُعيد النقاش المزمن حول دور «الأمم المتحدة» وجدواه في حلّ النزاعات الإقليمية والدولية، علماً أن إردان كان قد اعتبر أن المنظّمة الأممية لم تَعُد لديها شرعية، أو أهميّة إزاء ما يجري في غزة، إذ رأى أن قرارها الأخير «سخيف»، كونه يَحرم إسرائيل ممّا اعتبره «حقّها في الدفاع عن نفسها». وكما كان عليه الحال مع بدء الحرب في أوكرانيا، بدأ محلّلون غربيون بإثارة مسألة الدور الأممي بين واقعه والآمال المعقودة عليه، حيث أشارت وكالة «بلومبرغ» إلى أن المنظّمة الأممية «تسير على غير هدى» في الوقت الحالي، مضيفة أن «أعضاءها البالغ عددهم 193 عضواً، قد ضاقوا ذرعاً جرّاء هذا الواقع، فيما يترسّخ شعور أكثر فأكثر بأنها تجعل من نفسها، وبوتيرة متسارعة، منظّمة عديمة الفائدة» على صعيد دورها كراعية للسلام والأمن الدوليَّيْن. وتنطلق الوكالة، بنبرة لا تخلو من انحياز إلى وجهة النظر الإسرائيلية، على خلفية رفض مجلس الأمن الدولي، بفعل فيتو روسي - صيني، تبنّي قرار يدين حركة «حماس»، إلى توقّع أن تلقى المنظّمة الدولية مصير سلفتها «عصبة الأمم». وفي محاولتها توصيف واقع المجلس، باعتباره «النسخة الدبلوماسية في وحول الحرب الدائرة بين (حلف) الديموقراطيات الغربية، ومحور القوى الاستبدادية المتمثّل في روسيا والصين»، تعتقد «بلومبرغ» أن «وجود شكل ما من أشكال الصراع داخل منتدى دولي (كالأمم المتحدة) لا ينبغي أن يكون مفاجئاً... ذلك أنه من الصعب توقّع أن تسود حالة من الانسجام والتوافق حين يتعلّق الأمر بمؤسّسات دولية يمكن تصنيفها، بحكم الأمر الواقع، على أنها تعكس صراع الحضارات (بين الأطراف المشاركة فيها)».

الأمم المتحدة في غزة: هل يعوّض الحضور الإغاثي الإخفاق السياسي والأمني؟
بدوره، يعود الباحث المتخصّص في الشؤون الدولية والأمنية، أندرياس كلوث، إلى فصول الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، حين تمكّنت البلدان الغربية من الاستفادة من مقاطعة السوفيات لاجتماعات مجلس الأمن الدولي، لإصدار قرار بالتدخّل العسكري في شبه الجزيرة الكورية تحت الفصل السابع، لافتاً إلى صعوبة تكرار الأمر في الوقت الراهن، بالنظر إلى تباين مصالح القوى الكبرى في المجلس، وعدم اتّفاقها على تعريف موحّد لمصطلح «الإرهاب». ويكمل كلوث حديثه مستدركاً بأن الأمم المتحدة، وعلى رغم إخفاقها في أداء مهمّتها الأمنية، لا تزال تلعب دوراً حيوياً في ميادين أخرى، كرعاية تنفيذ الاتفاقات الدولية في كلّ المجالات كالاتصالات، والنقل، ومجالات أخرى، فضلاً عن دورها في المجال الإغاثي، عبر الوكالات التابعة لها حول العالم، ولا سيما في غزة، كـ»الأونروا».
استُعيد النقاش المزمن حول دور «الأمم المتحدة» وجدواه في حلّ النزاعات الإقليمية والدولية


في السياق نفسه، ترى مجلة «فورين بوليسي» أن الصراع المحتدم داخل أروقة مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، بات «يتركّز إلى حدّ كبير حول تغليب السردية السياسية لكلّ طرف، عوض التركيز على إحداث فارق ملموس على الأرض»، لافتةً إلى أن «الأمم المتحدة تكافح من أجل الحفاظ على دورها في غزة»، في وقت تبدو فيه أسيرة التباينات بين القوى الدولية، تماماً كما هو الحال في أوكرانيا. وعلى رغم إقرارها بصعوبة أن يفضي القرار الأممي المشار إليه إلى نتائج عملية إيجابية تُذكر في غزة، على المدى القصير، بالنظر إلى لائحة طويلة من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة التي أهملتها إسرائيل، توقّعت المجلة أن يسفر القرار، «في أحسن الأحوال، عن خفض التصعيد لفترة محدودة»، مشدّدة على أنّه «على المدى الطويل، قد تكون إعادة التنظيم المحتمل في اصطفافات الكتل التصويتية القائمة داخل الهيئة الأممية ذات أهمية أكبر على صعيد إرساء الأمن والسلام الدوليَّيْن». وتتوقّف المجلّة عند ازدواجية معايير البلدان الغربية، ذلك أن المشروع الأخير الذي أقرّته الجمعية العامة في شأن الدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة، حظي بتأييد 120 دولة، منها فرنسا، في مقابل امتناع دول أخرى، مثل بريطانيا وألمانيا، عن التصويت على المشروع الذي عارضته إسرائيل والولايات المتحدة، إلى جانب 11 عضواً آخرين، ملمّحةً إلى أن الأمر يوحي بتناقضات داخل معسكر القوى الغربية التي كانت صوّتت بشبه إجماع، العام الماضي، على قرار مشابه لإدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وهذا بالضبط ما يشير إليه مدير برنامج الأمم المتحدة لدى «مجموعة الأزمات الدولية»، ريتشارد غوان، إذ يقول إن» الأمم المتحدة باتت المسرح السياسي الدولي الأساسي»، معتبراً أنها «وفي الحالات التي يتعذّر فيها الاتفاق بين القوى الكبرى، كحربَي أوكرانيا وغزة، تبدو أشبه بمنصّة لإلقاء الخطابات وإظهار المواقف».