تنبئ العملية البريّة الإسرائيلية، إلى الآن، بأن ما خطّط له جيش الاحتلال هو الآتي: قضم متدرّج بما يؤدّي إلى تقسيم القطاع إلى نصفَين: شمالي وجنوبي، والتركيز على إحكام الحصار على الجزء الشمالي عبر الوجود البرّي المباشر للقوات في الميدان، حيث أمكن، وبالنار عن بعد، ما أمكن أيضاً. إلا أنه بعد مرور بضعة أيام على بدء المرحلة الأولى من العملية، التي يمكن وصفها إلى الآن بأنها محاولة ضغط أكثر من كونها هجوماً ابتدائياً يمهّد لما هو أوسع منه، لا تزال هذه المرحلة عالقة، فيما يتطلّب استكمالها من جيش الاحتلال جهوداً أوسع وأشمل في الميدان وفي «اللوجستيك»، بشرياً ومادياً، مع تغيير في التكتيكات المتّبعة، في أكثر من مستوى واتجاه، ميداني وغير ميداني.هنا، تتقدّم مجموعة أسئلة: ما هو الهدف النهائي من المرحلة الأولى؟ وهل هي وسيطة لمراحل أخرى؟ ما الذي سيحدث في أعقاب استكمالها؟ وما هو الوقت الذي سيتطلّبه الانتقال منها إلى ما يليها؟ الأكيد، إلى الآن، أن جيش الاحتلال، بكلّ مقدّراته والمعونات المتوفّرة له من الترسانات الأميركية وغيرها، لم يستطع، في الأسبوع الرابع من حربه على غزة، وتحديداً شمال القطاع، تلك البقعة الجغرافية الضيّقة والمبسوطة، إنهاء المرحلة الأولى من عمليته البرّية، التي لا تعني بالضرورة خوض مواجهات مباشرة مع المقاومين، ويُفترض أن تمهّد للمرحلة التي تليها، وفقاً للنتيجة التي ستصل إليها.
فما الذي يسبّب لإسرائيل ولجيشها، هذا التموضع المتردّد والمتشكّك والمتأخّر؟ يبدو أن كثرة الأطراف ذات العلاقة والتأثير في هذه الحرب، بما يشمل طرفَيها المباشرَين والمتدخّلَين فيها، تجعل من هذا الصراع عرضة لمتغيّرات يتعذّر حصرها وتحديد تأثيرها على طاولة التخطيط، كما في الميدان. من هنا، فإن ديناميات الحرب تبدو مشرّعةً أمام التحوير والتبديل، إنْ لجهة السقوف الموضوعة للصراع برمّته، أو لأهداف المرحلة الوسيطة الأولى، أو حتى لجهة إمكانية استكمالها من عدمه. وفي السياق، يبدو ذا دلالة ما قاله قائد فيلق الأركان العامة السابق، اللواء احتياط غرشون هكوهين، الذي سئل أمس في مقابلة إذاعية عن المدى المتوقّع للقتال في غزة ونطاقه، من أن «هناك أشياء لم تولد بعد، إنها مثل التخطيط لما يجب فعله بالبويضة التي لم تولد بعد. نحن في معركة صعبة، وإذا لم نغزُ قلب غزة ونُخرج قوات المقاومة من هناك، فستصبح (غزة) قصة أكثر بطولية وأعظم من لينينغراد في الحرب العالمية الثانية. موقع سياحي سيأتي إليه العالم لمشاهدة بطولة حماس، وسيكون مصدر إلهام كبير يعرّض وجودنا للخطر».
ينتظر إسرائيلَ مزيدٌ من الاستحقاقات على طاولة التخطيط والقرار، ربطاً بالمرحلة الأولى من العملية البرية


وحتى الآن، يبدو الحديث في إسرائيل عن أهداف الحرب مشوَّشاً ومختلطاً، ما بين المصلحة كما يجري تشخيصها بسقوفها العالية جداً، وما بين القدرة الفعلية على تحقيق هذه المصلحة. وفي هذا الإطار، يقفز أمام قيادة العدوّ ردّ الفعل من الجانب الثاني من المتراس، والذي من شأنه أن يتحكّم بوجهة العملية البرية وحيثياتها. وتلقّت إسرائيل، أمس، بالفعل تذكيراً بتلك الحقيقة، بعدما سقط لها، بإقرارها، 15 جندياً، في مواجهات مباشرة مع المدافعين عن تخوم غزة، خلال يوم واحد. وأتى ذلك على رغم الحذر المطلق، وعمليات التأمين الكاملة، والتحصين الثابت والمتنقّل، لأفضل وأحدث الوسائل القتالية والحمائية، فضلاً عن أنه من الأصل، لم يكن يُفترض بالقوات الإسرائيلية خوض مواجهات مباشرة معتدّ بها مع المقاتلين الفلسطينيين، بل الاستحواذ والسيطرة عبر التهويل والتخويف، والتمهيد الناري عن بعد.
وبدا لافتاً تعليق رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على ما وصفه الإعلام العبري بالكارثة (9 قتلى، قبل أن يرتفع العدد الى 15)، حيث قال: «نعلم أن كلّ جندي من جنودنا هو عالم بأكمله. إن شعب إسرائيل بأكمله يحتضنكم، وعائلاتكم، من أعماق قلوبنا. نحن جميعاً معكم في وقت حزنكم الكبير. لقد سقط جنود في حرب لا عدالة فيها، الحرب من أجل الوطن. أؤكّد لكم يا مواطني إسرائيل: سنكمل المهمة، سنواصل حتى النصر». وعلى رغم ما أوحى به هذا الكلام من إصرار على تحقيق «الانتصار»، إلا أنه استبطن إقراراً، بأن إسرائيل، قيادة وجمهوراً، ترى نفسها اليوم غير ما كانت عليه في ما مضى، إذ على رغم كلّ ما حصل لها في 7 أكتوبر، ومع أن «الانتصار» في هذه الحرب يمثّل ضرورة وجودية بالنسبة إليها، إلّا أن الأثمان المقدَّرة لهذا الانتصار لا تزال تمنعها، أو تؤثّر إلى حدّ بعيدٍ في منعها من الإقدام على الخيارات المتاحة لتحقيق أهدافها، المتّصلة هذه المرّة بأمن الكيان وبقائه.
يلقي كلّ ما تَقدّم بظلال من الشكوك على المعادلة التي أرادت إسرائيل تثبيتها بعد 7 أكتوبر، ومفادها أن دولة الاحتلال تريد «الانتصار»، وهي معنيّة به مهما كانت الأثمان. ففي اختبار الواقع، ينتظرُ إسرائيلَ مزيدٌ من الاستحقاقات على طاولة التخطيط والقرار، ربطاً بالمرحلة الأولى من العملية البرية. وفي انتظار ما ستحمله الأيام المقبلة، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً، هو الاستمرار في تلك المرحلة، من دون الانتقال فعلياً إلى أي مرحلة ثانية، وخاصة إذا تلقّت تل أبيب المزيد من الضربات الموجعة و«الكارثية»، كما حصل أمس على تخوم غزة في شمال القطاع. وفي هذه الحالة، لن يكون من الممكن توقّع ماهية الخطوة التي تلي، في ظلّ أرجحية انتفاء وجودها أصلاً.



بين غزّة ولبنان... إسرائيل أضاعت البوصلة
في سياق مقارنتها بين ما أعلنته إسرائيل من أهداف في بداية الحرب، وما عادت وتحدّثت عنه لاحقاً، أشارت صحيفة «هآرتس» العبرية إلى تراجع في الموقف، كما في الأهداف. ووفق الصحيفة، فإنه كان يُنظر ابتداءً إلى «المذبحة المروّعة» التي «ارتكبتها» «حماس»، على أنها هجوم انتحاري، وما يعنيه ذلك من أن الحركة «حكمت على نفسها بالموت». وإذ كان الهدف الأصلي للحرب، هو تدمير «حماس» وقادتها، فإنه مع تأخّر الجيش الإسرائيلي في استعادة توازنه، «واضطراره أيضاً لتقسيم اهتمامه بين الجنوب والشمال، بين غزة السنوار ولبنان نصرالله، ضعف موقف إسرائيل، وظَهرت إشارات من الولايات المتحدة إلى ضرورة الحدّ من أهداف الحرب». ولفتت «هآرتس» إلى أن حكومة بنيامين نتنياهو فقدت تماماً حرّية الاختيار بين البدائل العسكرية، وباتت «خاضعة تماماً للإرادة الأميركية»، مضيفةً أنه «بقدْر ما تبدو هذه الأمور مشينة في آذان الإسرائيليين، بسبب المذبحة الوحشية، فمن المؤكّد أن هجوم حماس على النقب الغربي سيتمّ تدريسه في الكليات العسكرية، كمثال على التحليل الصحيح للعدو (أي إسرائيل) من قِبَل البادئ بالعملية (أي حماس)».