لم يتوقّع أحد أن تكون 1995 إحدى سنوات التغيير التأثيرية على صعيد العالم بأكمله. يومها، ولدت السوشال ميديا، لا كما نعرفها اليوم، لكن على الأقل كانت اللبنة الأولى مع مواقع مثل classmates.com عام 1995 وsixdegrees.com عام 1997. لكن الأمر لم يتحوّل إلى ما نعرفه اليوم إلا عام 2005 حين ظهر فايسبوك وتبعه «ماي سبيس». أصبح روّاد هذه المواقع يتجاوزون المليار مستخدم على مستوى العالم. أما بالنسبة إلى المشرق العربي، فدخول وسائل التواصل الاجتماعي بقوّتها التأثيرية حصل في الثورة المصرية (ثورة 25 يناير) عام 2011، والعدوان على غزّة (سميت «عمود السحاب» وفق العدو الصهيوني) عام 2012. في الحالتين، كُسرت شوكة الإعلام الكلاسيكي الذي كان مدعوماً من قبل الأثرياء التابعين للأنظمة الحاكمة، أو حتى للأنظمة الحاكمة نفسها. ربما هذا ما أشار إليه المغنّي الأميركي الشهير جيل سكوت هارون حين أنشد «الثورة لن تكون متلفزة» (the revolution will not be televised). خلال الحدثين، وصولاً حتى يومنا الحالي، بدأت تتعاظم قوة «الإعلام الفردي» و«المواطن الإعلامي» في التغطية. كُسرت «الرواية» الرسمية، وأصبح «شاهد العيان» الناقل للخبر والصورة عبر هذه المنصّات، سيد الموقف والساحة. ربما من هنا جاءت محاولات الأنظمة الكبرى (أميركا والصين والدول الأوروبية) وملحقاتها (كيان الاحتلال) التواصل مع ملّاك هذه المواقع للسيطرة عليها أو على الأقل التأثير عليهم كما هي الحال مع زيارات مارك زوكربيرغ (مؤسس موقع الفايسبوك ومالك شركة «ميتا» المالكة للكثير من وسائل التواصل الاجتماعي) لكيان الاحتلال الصهيوني، ما أفرز قيوداً مكثّفة على القضية الفلسطينية، في محاولة لتغييبها، وتعتيم الصورة، أو حتى حجبها، كما كانت تفعل وسائل الإعلام الكلاسيكية.
حسن هاشم

في7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بدأت أحداث «طوفان الأقصى». وعلى الفور اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تأخر الإعلام الكلاسيكي عن التحرّك كعادته. وحين فعل بدا أن الغرب يأخذ طرف الصهاينة هذه المرّة بشكلٍ مختلف: يتبنّى روايتهم بالكامل، حتى مع اتساع رقعة المجازر التي بدأ العدو بعد أيامٍ بتنفيذها. سرعان ما بان الشحّ الثقافي والمعرفي الذي تعانيه المجتمعات العربية، فضلاً عن غيابٍ مدقع وحزين للشخصيات «المؤثرة» من فنانين وإعلاميين وكتّابٍ وصحافيين عن الإدلاء بأي موقف يدعم القضية والشعب الفلسطيني الذي كان يذبح أمامهم بصمت. صمتت شخصياتٌ لها باع طويل في الغناء والكتابة والتأليف للقضايا الوطنية كالمغنية جوليا بطرس (بقيت صامتة أكثر من 15 يوماً كاملين خلال الأحداث)، والكاتب الفلسطيني المعروف إبراهيم نصرالله (صاحب «الملهاة الفلسطينية») الذي كان يكتب «رموزاً» على صفحته لا يفهم منها أي موقف. وخرج لاعب كرة القدم المصري المعروف محمد صلاح بفيديو متواضع بدا فيه كأنه «دمية» مصنوعة بواسطة الذكاء الاصطناعي، ولم ينس بالتأكيد الموازاة بين الضحية والجلاد وشجب العنف المتبادل بين الفلسطينيين الضحايا وبين آلة القتل والحرب الصهيونية. طبعاً هذه الأسماء غيضٌ من فيض. في المقابل، بدا أن هناك جيلاً جديداً من حملة اللواء في الدفاع عن القضايا العربية: المؤثرون الاجتماعيون (إنفلونسرز). قد يراه بعضهم غريباً، لكن هؤلاء الشباب اختاروا أن يقفوا مع شعوبهم، ولو كان الثمن إغلاق حساباتهم التي بذلوا سنواتٍ حتى وصلت إلى ما هي عليه.
«صنّاع المحتوى اليوم ينقسمون إلى قسمين. قسم يحمل رسالة، وحكماً يكون صاحب مبدأ. أما النوع الآخر فهو مجرد شخص سطحي يريد أن يصبح انفلونسر لأن غرضه هو الشهرة. بعد الذي حدث ويحدث في غزّة وفلسطين؛ يجب أن تأخذ موقفاً. هذا الحدث الكبير يستدعي أن نأخذ موقفاً. أنت كمؤثر، يجب أن تعي قيمة هذه الكلمة ومعناها. أنت تؤثر على الناس، بمعنى أن هؤلاء الذين يتابعون صفحتك، قد يكون عددهم مليوناً، مليونين، ثلاثة، اقتنعوا بما تقوله، وصرت بمثابة قدوةٍ بالنسبة إليهم. لذلك، فالصمت في هذا المكان وأمام هذه القضية عيب وعار» يشير حسن هاشم، صانع المحتوى، واليوتيوبر الذي يبلغ عدد متابعيه أكثر من خمسة ملايين.

عبد الله سعادة

يقدّم حسن هاشم برنامجي «غموض» و«القصة» بعدما شارك ـــ منذ اليوم الأوّل على صفحاته ــــ فيديوات تدعم القضية الفلسطينية بشكلٍ مباشر وواضح. يقدّم هاشم ذو الصوت المميز والطريقة الاحترافية في التصوير والأداء، محتوى ثقافياً بامتياز. لذلك ربما لم يكن غريباً عليه انحيازه إلى القضية الفلسطينية: «بالنسبة إليّ، أنا شخصٌ لطالما أبرز عروبته للعالم ومتمسّك باللغة العربية الفصحى، أحاول جمع الشعوب العربية وتوحيدها. أبتعد عن كل المواضيع الإشكالية التي تثير أي مشكلات بين الشعوب العربية، بالتالي، فالقضية الفلسطينية في صلب اهتمامي وانشغالاتي لأنها قضية مركزية شئنا أم أبينا». ألا يخشى هاشم مثلاً أن تغلق صفحته التي قضى قرابة ثلاث سنوات في بنائها؟ يجيبنا: «بصراحة، قد يقول بعضهم إنه يريد حماية نفسه في الأزمة فلا يصوّر، ولا يفعل شيئاً. أستذكر حدثاً تاريخياً، قام به أهل الكوفة أيام معركة كربلاء. لقد قالوا لدى سؤالهم عن سبب خذلانهم الإمام الحسين: «مالنا والسلاطين»، بمعنى أنها ليست قضيتنا، وصراع لا شأن لنا به. أنت اليوم كمؤثر اجتماعي، تشاهد ما يحدث أمامك، وترى وضعاً غير طبيعي نهائياً. نحن نشاهد جرائم النازية التي حدثت قبل أعوام طويلة كما لو أنها مصوّرة، وربما حتى لا تصل إلى مستوى قساوة المشاهد التي نشاهدها الآن. أن نبقى في الخانة الرمادية أمر ممنوع، وإن لم تتكلم فأنت خاسر. خسرت احترامك لنفسك، كما احترام الناس الذين آمنوا بك». حين نسأله عن خشيته من إقفال صفحته، يجيبنا: «كل شيء ممكن. حضّرت نفسي لكل الاحتمالات. لكن من أنشأ هذه الصفحة يمكنه إنشاء صفحة مثلها. الإنسان في النهاية موقف، وهذا موقفي».

حسن رعد

يعرف كثيرون عبد الله سعادة باسم صفحته «ترول طرزان». شكله وحركته وشخصيته الحيوية، أفادته كثيراً في تقديم محتوى قائم على السياحة والتعريف بالمناطق السياحية غير المعروفة في لبنان. سرعان ما بدأ سعادة يطلق فيديوات تدعم القضية الفلسطينية مع بدء عملية «الطوفان». ربما كان غريباً أن يحوّل سعادة محتوى صفحته إلى محتوى داعم للقضية الفلسطينية بين ليلةٍ وضحاها. يقول لنا: «أريد أن أكون شخصاً جيداً». بهذه المباشرة والبراءة يقول سعادة عن السبب الذي دفعه إلى تبنّي موقف مناصر لفلسطين. يجيب بعاميته المحببة التي جعلت عدداً متابعيه يصل إلى الملايين: «الإنسان الجيد اللي إذا شاف باطل أو غلط، بغض النظر شو الأطراف السياسية أو شو الديانة، بيحكي الحق وبيوقف مع الحق شو ما كانت النتيجة عليه». يضيف: «صانع محتوى، لدي منصة. الله أعطاني هذه المنصة يمكن عشان يعملي اختبار، وضعني بهالموقف، عم يختبرني، أنا أقل واجب إني احكي». يشرح كيفية أدائه على صفحاته: «أحبّ دوماً أن أظهر جمال الطبيعة والعودة إليها، وكيف يمكن أن نفرح بها كما هي. ليس شرطاً أن ندفع أموالاً طائلة مثلاً كي نفرح برحلة طبيعية. حفاظي على الطبيعة ومساعدتي في نشر التوعية حولها، هما سمتا الإنسان الجيد». نكرر سؤالنا له عن سبب دعمه القضية الفلسطينية على صفحاته، فيجيب تلقائياً: «أنا عربي. أحب التاريخ، وأشاهد وثائقيات عنه وأقرأ الكثير من الكتب حول الأمر. لقد خرجت من عندنا حضارات وديانات وعلوم، وأخرجنا للعالم الكثير من العظماء. لماذا نريد أن ننكرهم؟ لماذا أريد أن أتنكر لعروبتي؟». ويختم قائلاً: «بصراحة، أريد أن أدعم القضية أكثر عبر محتوى صفحتي».
يؤكد حسن رعد أنَّ خوارزميات مواقع التواصل تحاصر كل ما يدعم القضية الفلسطينية


لا يقدّم حسن رعد محتوى ملتزماً بقضية معينة. تشتمل صفحته على محتوى خفيف و«كاركتيرات» يصنعها الشاب اللبناني بمهارة كبيرة، تارةً مع والدته التي تؤدي بكثير من العفوية والتلقائية، وطوراً بشخصية «العاشق الموله» الذي يضايق الجميع بكثرة حديثه وبحثه عن محبوبته «البوبو». قد يرى كثيرون هنا أنّ محتوى مماثلاً هو الأبعد عن القضايا المركزية. إذاً ماذا حدث بعد السابع من أكتوبر؟ يجيبنا: «للحقيقة أنا شخص لديه حمية ونخوة. حين يقع حدث إنساني، أتطوّع توّاً من دون انتظار أحد. فعلت ذلك لدى انفجار مرفأ بيروت حين نزلت وحدي، وبدأت بالمساعدة بكل قوتي، وبقيت في الشارع لأكثر من 15 يوماً كاملين. الأمر نفسه في زلزال سوريا، إذ جمعت ما استطعت من مساعدات وتوجهت وحيداً من دون تنسيق مع أي جهة. كنت أريد أن أساعد بما أقدر عليه». ما حدث في فلسطين دفعه إلى الكلام منذ اللحظة الأولى: «استيقظت من النوم، علمتُ بما حدث. نظرت إلى نفسي، ماذا أستطيع أنا كصانع محتوى أن أقدّم، وكيف يمكنني أن أساعد؟ فهمت أنّ عليّ توظيف كل إمكاناتي في خدمة هذه القضية». ألا يؤثر هذا على محتواه وجمهوره الذي اعتاده كوميدياً؟ يجيبنا: «لقد استفدت من صفحتي ومتابعيّ لغرضٍ سام، وبصراحة يمكنني أن أرجع إلى الكوميديا لاحقاً، لأنّه ليس وقتها الآن أبداً. أنا بدأت كمصوّر، وهذه حرفتي، قبل دخولي عالم السوشال ميديا، لذلك حاولت أن أساعد الناس وتوجيههم إلى طرقٍ يتجنّبون عبرها احتمال حذف فيديواتهم». هل حاربه «النظام» (نظام السوشال ميديا)؟: «بالتأكيد. مشاهدات الفيديو لديّ كانت تراوح بين 20 و25 ألف مشاهدة، نزلت إلى 6000 بين ليلة وضحاها. أصدقائي في كندا اشتكوا أنهم لم يعودوا يروا فيديوات، هكذا يحاصروننا». يؤكد حسن رعد أنَّ خوارزميات مواقع التواصل تحاصر كل ما يدعم القضية الفلسطينية. لكن السؤال الأهم: هل هو مستعد لخسارة ملايين المتابعين والسنوات التي قضاها في بناء مواده؟ يختم قائلاً: «بصراحة، سيكون شعوري عادياً. بالنهاية أنا لم أبنِ أرقاماً، أنا بنيت جمهوراً، بالتالي هذا الجمهور سيتابعني على صفحةٍ جديدة، لأنه يحبّني ويحبّ ما أقدمه. إنهم أناس حقيقيون يعرفونني وأعرفهم، ويسلمون علي إذا ما شاهدوني في الطريق».



كذبوا عليكم
«احذفوا ما شئتم، هكذا كذبوا عليكم!» هو عنوان الفيديو الذي نُشر في 27 تشرين الأول (أكتوبر) عبر اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي. شارك في صناعة الفيديو عددٌ من صنّاع المحتوى اللبنانيون: ميساء عطا الله، زينب مرعي، حسن رعد، عبد الله سعادة، عبد الرحمن بوشية، بلال حداد، حسن هاشم، وبالاشتراك مع مدير التصوير علي قميحة، فيما أخرجه محمد الدايخ، وتولّت مونتاجه سارة صفي الدين. تناول الفيديو كيفية خداع وسائل الإعلام الغربية العالم من أجل دفعه إلى التضامن مع كيان الاحتلال. الفيديو دفع كلفته بالكامل هؤلاء الشباب، ولم يتقاضوا أي بدلٍ مادي عليه، وصوروه في أحد مباني وزارة الثقافة بالتعاون مع وزير الثقافة الحالي القاضي محمد وسام مرتضى. يروي حسن رعد لنا: «هاتفني حسن هاشم وقال لي نريد أن نصنع شيئاً لأجل فلسطين لم أعد قادراً على التحمّل. أجبته بالمثل، هاتفت عبد الله سعادة الذي كان في الجنوب. جاء ركضاً، أردنا كلنا أن نفعل شيئاً لفلسطين. اجتمعنا عندي في الاستديو وانضم إلينا عبدالرحمن بوشية الذي جاء من طرابلس بسرعة وميساء عطا لله. بدأنا بطرح الأفكار ومناقشتها. في ليلة واحدة، خرجت الفكرة ثم بدأنا بطرح أسماء إضافية، لأننا كنا نريد أن يكون العمل متكاملاً». من جهته، يقول حسن هاشم: «تأثرنا كثيراً بمشهد رأيناه مع بداية الحرب، حين جمع وزير الإعلام الصهيوني مجموعة من صناع المحتوى والمؤثرين الصهاينة ضمن ما سمّاه «غرفة عمليات» وبدأ يعطيهم تعليماته. قلنا لماذا لا نتجمّع نحن كلبنانيين، ثم نفتح الباب أمام إخوتنا المؤثرين وصناع المحتوى العرب من جميع الأقطار العربية كي يقدّموا فيديوات مشابهة ومن النوع نفسه كلٌّ حسب فكرته».