تونس | بخلاف ما كان متوقّعاً، لم يصادق البرلمان التونسي، خلال جلسته العامة، أول من أمس، على مقترح «قانون تجريم التطبيع» مع الكيان الصهيوني، ما حدا برئيسه، إبراهيم بودربالة، إلى إرجاء النظر في المقترح، لتنقسم قاعة المجلس بين رافض ومؤيّد، ولا سيما أن بودربالة جاء حاملاً رسالة من الرئيس قيس سعيد، عمّقت بدورها الانقسام في هذا الشأن. وبينما طالب بعض البرلمانيين بمنع الشركات الدولية المتعدّدة الجنسيات من الاستثمار في تونس وغلْق فروعها باعتبارها تتعامل مع الكيان، وتحجيم العلاقات التونسية مع الدول التي لها صلات بكيان الاحتلال، ذهب آخرون إلى حدّ مطالبة رئيس الجمهورية بالتراجع عن كل الاتفاقات الدولية والبروتوكولات التي صادقت عليها البلاد، وقطع كل تعاون اقتصادي مع دول الغرب والدول العربية المطبّعة، والتعويل على المصادر والقدرات الداخلية لبناء اقتصاد مكتفٍ ذاتياً.تجدر الإشارة إلى أن اقتراح القانون الآنف كان قد طرح، في آب الماضي، من قِبَل كتلة «الخط الوطني السيادي» الوازنة في البرلمان، والتي تضمّ «حركة الشعب» (قومية ناصرية)، وحزب «الوطنيين الديموقراطيين الموحد» اليساري. غير أن اللجنة البرلمانية المتعهّدة دراسة المشروع، لم تستكمل دراسته آنذاك، لاضطلاعها بدراسة مشاريع أخرى، إلى أن دفعت عملية «طوفان الأقصى» المقترح مجدّداً إلى قائمة الأولويات.
وإزاء ذلك، رأت الرئاسة أن المقترح مُرّر في اللجنة لغايات انتخابية بحتة من دون دراسة كافية، معتبرةً أنه «يضرّ بالمصالح الخارجية» لتونس، وأنه بمثابة «تآمر» على أمن البلاد الخارجي، وفق ما نقل رئيس البرلمان عن سعيد. وأثار هذا الموقف موجة من الاستنكار ضدّ سعيد، الذي كان أول مَن رفع شعار: «التطبيع خيانة عظمى» إبّان حملته الانتخابية، واستخدم براعته اللغوية، أخيراً، في تأجيج مشاعر التونسيين تضامناً مع الشعب الفلسطيني، منذ انطلاق معركة «طوفان الأقصى». على أن مراقبين مؤيدين لسعيد يعتبرون أن الأخير «لم يخالف شعاره أو يخُن مبادئه»؛ ففي حين فشلت النخبة التأسيسية في تضمين تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني خلال صياغتها دستور ثورة عام 2011 نتيجة الضغط الذي تعرّضت له «الترويكا» الحاكمة آنذاك من قوى دولية، ولا سيما فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، أَدرج سعيد «التجريم» في التعديلات التي أَدخلها على الدستور في عام 2022، إلا أن الرئيس لم يقبل مقترح القانون، كونه رأى فيه محاولة لسحب بساط مناصرة القضية منه لفائدة «حركة الشعب» وحلفائها.
يبدو أن سعيد يرغب في تفادي صدام مع اللوبي اليهودي الذي يحتفظ بتأثيره في دوائر القرار


أمّا وزارتا الخارجية والعدل، فالأكيد أنهما لن تقبلا المقترح الذي جاء ضبابياً كما هو، وستطالبان بتعديله؛ إذ إن أيّ عقوبات لم تُذكر في إطار الجرائم الواردة فيه، ما يجعله نصاً غير قابل للتطبيق ويحتاج إلى نصوص أخرى تبيّن عقوباته. كما أنه يجرّم التواصل بأيّ شكل مع الأشكال مع أفراد أو شخصيات معنوية من ذوي الجنسية التونسية تربطهم علاقات مع الكيان الصهيوني، ما يضع منتسبي الطائفة اليهودية في البلاد، على اختلافهم، تحت طائلة هذا التجريم، علماً أن هؤلاء الذين انقسموا بين مؤيّد للمجازر الصهيونية في حقّ الفلسطينيين، وبين صامت ومتفادٍ للتعليق، تجمع أغلبهم صلات بإسرائيل، ولديهم قرابات وعائلات ممّن غادروا إلى الأراضي المحتلّة في ستينيات القرن الماضي ولا يزالون يحتفظون ببيوتهم وتجارتهم جنوب تونس، فيما يَدخل البعض منهم إليها من إسرائيل عبر دولة أوروبية. وينطبق ذلك خصوصاً على القادمين منهم لأداء الحجّ في كنيس الغريبة في جزيرة جربة، والذي يستقبل حجاجاً يهوداً من كل العالم، باستثناء حاملي جواز السفر الإسرائيلي.
بالنتيجة، يبدو أن سعيد يرغب في تفادي صدام مع اللوبي اليهودي الذي يحتفظ بتأثيره في دوائر القرار عبر السفارات الأوروبية والأميركية. ولذا، في حال توقيع غالبية النواب على المقترح، فإن سعيد سيجد نفسه مجبراً على عدم التوقيع عليه، وردّه إلى البرلمان.