فيما بدت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، منذ نحو شهر، مطلَقَة اليد في إزهاق أرواح الفلسطينيين، بغطاء دولي كامل، حاولت هذه الحكومة، برئاسة بنيامين نتنياهو، منذ إطلاق عملية عسكرية برّية في قطاع غزة، أن تستبق زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بشتّى السبل، لتحقيق ما يمكن تسويقه كـ»إنجاز ميداني»، في ظلّ ثبات فصائل المقاومة الفلسطينية، وهو ما دفع قيادة جيشها، خلال الساعات الأخيرة، إلى إعلان ما سمّته «تطويق غزة». وعليه، تبدو زيارة رأس الديبلوماسية الأميركية شديدة الصلة بما يدور في كواليس الحكومات الغربية حول التداعيات «غير المحمودة» لتصاعُد ضغط الرأي العام الدولي ضدّ إسرائيل، من جهة، وعدم مقدرة تلك الحكومات، الداعمة لتل أبيب، من جهة أخرى، على الاستمرار في تغطية «الجرائم المتلفزة» التي ترتكبها «قاعدتها الأمامية» في الشرق الأوسط.
«نقطة تحوّل»
على مرّ الأيام الماضية، توقّف محلّلون عند ما سمّوه «تغيّراً في اللهجة» لدى الولايات المتحدة ممّا يجري في فلسطين، جلّته سلسلة مواقف، منها ما جاء معلَناً، ومنها ما تولّت تسريبه صحف ووسائل إعلام أميركية. وفي هذا الإطار، جرى الحديث عن «ضغوط» مارسها الرئيس الأميركي، جو بايدن، خلال «المكالمات الهاتفية العشر» التي أجراها مع نتنياهو، للقيام بخطوات من بينها زيادة عدد شاحنات المساعدات المسموح بدخولها إلى غزة، وتسهيل مغادرة الرعايا الأجانب من القطاع، والحدّ من عنف المستوطنين المتطرّفين في الضفة الغربية، وتنبيهه إياه إلى أن «المجتمع الدولي سيحكم على إسرائيل بقسوة إذا لم تتّخذ خطوات من شأنها تخفيف المعاناة الإنسانية بشكل كبير، وتقليل الوفيات بين المدنيين الفلسطينيين»، على خلفية ما تؤدّي إليه الغارات الإسرائيلية من «عدد غير متناسب من الضحايا». وفي الاتجاه نفسه، شدّد وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، لنظيره، يوآف غالانت، على أهمية أن يرى «المجتمع الدولي» أن إسرائيل تعمل على «حماية المدنيين» في غزة، وهو كلام كرّره رئيس هيئة الأركان الأميركية، الجنرال سي كيو براون، في مكالمة هاتفية مع نظيره الإسرائيلي، هرتسي هاليفي. وعلى ما يبدو، تدرك إسرائيل أن «نافذة الوقت المفتوحة» أمامها للانتقام بدأت تضيق، وهذا ما سعت واشنطن إلى أن تنقله «مباشرةً» إلى حلفائها في حكومة نتنياهو، على لسان بايدن، حين أعرب الأخير عن اعتقاده بأن هناك حاجة إلى وقف إطلاق النار في غزة، وإنْ لفترة مؤقتة لداوعٍ «إنسانية»، وأمس عبر زيارة وزير خارجيتها، بلينكن، للأراضي المحتلّة.

ماذا تريد واشنطن؟
على رغم تأكيد مسؤولي إدارة بايدن، في أكثر من مناسبة، رفضهم وقف إطلاق النار، وإصرارهم على أنه «لا خطوط حمر» أمام إسرائيل، كشفت شبكة «سي إن إن» أن الرئيس الأميركي، وكبار مستشاريه، حذّروا إسرائيل بشكل متزايد من أنه سيصبح من الصعب عليها تحقيق أهدافها العسكرية في غزة، مع اشتداد الغضب العالمي إزاء حجم المعاناة الإنسانية في القطاع، منبّهين إلى أنّ «الوقت المتاح لإسرائيل محدود لمحاولة تحقيق هدفها المعلن المتمثّل في القضاء على حركة (حماس) في عمليتها الحالية، قبل أن تصل الضجة حول المعاناة الإنسانية والخسائر في صفوف المدنيين والدعوات إلى وقف إطلاق النار إلى نقطة التحوّل». وأضافت الشبكة الأميركية، نقلاً عن مصادر، إن بايدن، إلى جانب وزيرَي دفاعه وخارجيته، أشاروا، في محادثات خاصّة مع المسؤولين الإسرائيليين، إلى أن تآكل الدعم الدولي للعمليات العسكرية الإسرائيلية ستكون له «عواقب استراتيجية وخيمة» على استمرارية تلك العمليات. وبحسب المصادر نفسها، فإن «ما أثار استياء بايدن وفريق الأمن القومي بشكل خاص، هو الغارات الجوية الإسرائيلية هذا الأسبوع على مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة». وأفاد مستشارون لبايدن، «سي إن إن»، أيضاً، بأنّ «هناك اعترافاً داخل الإدارة بأن تلك اللحظة (فوات الأوان) قد تأتي بسرعة، ذلك أنه لم يتبقَّ سوى أسابيع، وليس أشهر، قبل أن يصبح رفض الضغوط على الإدارة الأميركية للدعوة علناً إلى وقف إطلاق النار أمراً لا يمكن الدفاع عنه»، مضيفين إن «المشكلة بالنسبة إلى إسرائيل هي أن الانتقادات أصبحت أعلى، ليس فقط بين منتقديها، ولكن من أفضل أصدقائها».
تدرك إسرائيل أن «نافذة الوقت المفتوحة» أمامها للانتقام بدأت تضيق، وهذا ما سعت واشنطن إلى نقله «مباشرةً» إلى حلفائها في حكومة نتنياهو


وكان بلينكن قد أعلن، قبيل توجهه إلى الأراضي المحتلّة، أنه يعتزم مناقشة «الخطوات الملموسة التي يمكن وينبغي اتّخاذها لتقليل الضرر الذي يلحق بالرجال والنساء والأطفال في غزة»، مضيفاً إنّه تبيّن «في الأيام الأخيرة، أنّ المدنيين الفلسطينيين ما زالوا هم مَن يتحمّلون وطأة هذه العمليات». وزعم أن بلاده ترمي إلى «التأكد من بذل كلّ ما هو ممكن لحماية المدنيين» الفلسطينيين. في الإطار نفسه، أوضحت صحيفة «واشنطن بوست» أن الوزير الأميركي جاء ليعرب للمسؤولين الإسرائيليين «عن مخاوف متزايدة في واشنطن من أن الاستراتيجية (العسكرية) الإسرائيلية قد تقوّض مصالحها الأمنية» في المنطقة، إضافةً إلى تدارس «خطط طويلة المدى حول السؤال الشائك المتعلّق بكيفية إدارة غزة» في فترة ما بعد الحرب، وسط تداول سيناريوات؛ من بينها تسليمها للسلطة، أو إخضاعها لوصاية ذات طابع دولي أو أممي، فضلاً عن «بحث أفكار ومقترحات، على المدى الطويل، متمحورة حول ما إذا كان حلّ الدولتَين الذي تدعمه الولايات المتحدة للصراع ما زال ممكناً»، علماً أن بلينكن نفسه كان قد اعتبر أن «حلّ الدولتَين هو الأنسب الذي يمكن من خلاله الحفاظ على أمن إسرائيل». ونقلت الصحيفة عن مسؤول أميركي قوله إنّ «إقرار هدنة إنسانية سيكون من ضمن سلّة المقترحات الأميركية بغية تسهيل دخول المساعدات وخروج الرهائن» من غزة.
من جهتها، أكدت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ بلينكن «سيضغط لإقرار هدنة إنسانية»، مضيفة إن الديبلوماسي الأميركي جاء لتأدية «مهمّة ديبلوماسية حسّاسة»، بهدف «تأكيد دعم الولايات المتحدة للحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة»، من جهة، و»الضغط على قادة إسرائيل لبذل المزيد من الجهد لحماية الفلسطينيين»، من جهة ثانية. وفي معرض إشارتها إلى قلق واشنطن من تبعات كلمة الأمين العام لـ»حزب الله»، السيد حسن نصر الله، والتي تزامنت مع الزيارة، أوضحت الصحيفة أن مهمّة بلينكن تشمل أيضاً «منْع خصوم إسرائيل من توسيع نطاق الحرب»، وفتح «جبهة ثانية». ولفتت إلى أنّ «العملية البرية دخلت مرحلة محفوفة بالمخاطر»، مبيّنةً أنّ محاولة تقدُّم القوات الإسرائيلية وسط بيئة مدينية مأهولة، تعجّ بالأنفاق، يُعدّ أحد تلك المخاطر، مع إشارتها إلى ضغوط أميركية على تل أبيب لحصر عملياتها ضمن قطاع غزة، وتحييد الضفة الغربية، في موازاة تحاشي التورّط في حرب إقليمية. ولشرح محاذير اجتياح القطاع، تنقل الصحيفة عن مسؤول عسكري إسرائيلي تشكيكه في وجود «قدرٍ كافٍ من الوقت» أمام قواته لإنجاز أهدافها المعلَنة في غزة، في ظلّ ما وصفه بـ»تحوّل اتجاهات الرأي العام الدولي بشكل حادّ مناهض لإسرائيل». وعن التبعات السلبية المحتملة لتوسعة الحرب في اتجاه الضفة الغربية أو لبنان، تلفت إلى أن القادة الإسرائيليين «يشعرون بالقلق من اندلاع أعمال عنف على نطاق أوسع، ما قد يتطلّب رداً كبيراً من الجيش المنتشر أصلاً بكثافة في غزة وفي الشمال للحماية من هجوم محتمل من جانب حزب الله اللبناني». وفي هذا الصدد، يقول الباحث الإسرائيلي المتخصّص في الشؤون العسكرية، ياغيل ليفي، إن «إطلاق هجوم موازٍ في الضفة الغربية سيرهق القوات الإسرائيلية» في موازاة الهجوم على غزة، معتبراً أنه «كان ينبغي على تلك القوات تهدئة الضفة الغربية، لكنهم فقدوا جانباً كبيراً من سيطرتهم على الأمور هناك».