لندن | أعلنت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فايسر، الخميس، أن بلادها ستحظر أيّ أنشطة لحركة «حماس» - المصنّفة في قوائم الإرهاب الألمانية -، وكذلك الجناح المحلّي لمنظّمة «صامدون» التي اتّهمتها بـ«نشر دعاية معادية للسامية». ويمثّل القرار السابق، تصعيداً إضافيّاً في إطار سياق عام مستمرّ، منذ هجوم السابع من أكتوبر، يكشف عن انحياز النخبة الحاكمة الكلّي وغير المشروط إلى كيان الاحتلال، وتواطئها في جرائم الحرب والإبادة العرقية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة المحاصَر. ويجلّي هذا الاتجاه، تسابُق السياسيين الألمان من مختلف التلوينات الأيديولوجية، في السلطة كما في المعارضة، وأيضاً جميع وسائل الإعلام الرئيسية، على إعلان مواقف صارمة متضامنة مع إسرائيل، ومؤيّدة لحربها المفتوحة ضدّ الفلسطينيين، تحت ستار دخاني كثيف من مفهوم غامض قانونياً لـ«حق إسرائيل في الدفاع عن النفس». ومن أجل السبب المذكور تحديداً، سافر المستشار الألماني، أولاف شولتس، من «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» (يسار الوسط)، بعد أيام قليلة من الهجوم الفلسطيني، إلى تل أبيب، ليُظهر تضامن بلاده التامّ مع الكيان، وتأييده «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وليجدّد أمام القادة الإسرائيليين، القول إن أمن «دولتهم» ووجودها هو «سبب وجود الدولة الحديثة» في ألمانيا.وبدورهم، اندفع قادة «حزب الخضر»، شريك «الاشتراكي الديموقراطي» في الائتلاف الحاكم، إلى إظهار الولاء للإسرائيليين، فأرسل روبرت هابيك - الذي يتولّى منصب نائب المستشار الألماني - رسالة فيديو مشحونة بالعواطف إلى يهود إسرائيل، فيما تولّت زميلته، أنالينا بيربوك، التي تدير وزارة الخارجية الألمانية، لعب دور صقر عنيد مؤيّد لإسرائيل في أروقة الاتحاد الأوروبي، وتمكّنت من فرض موقف برلين في البيان الختامي لقمة زعماء التكتُّل، نهاية الشهر الماضي، في بروكسل، في شأن الأحداث في غزّة، والتي لم ترقَ حتى إلى مستوى دعوة خجولة إلى وقف إطلاق النار، واكتفت بالتوسّل للجيش الإسرائيلي لقبول ما سمّته بـ«هُدَن إنسانية»، يُسمح أثناءها بدخول بعض المساعدات العاجلة للسكان المحاصَرين. أمّا في الأمم المتحدة، فكانت ألمانيا واحدة من الدول التي عارضت دعوة الأمين العام، أنطونيو غوتيريش، الأخيرة، إلى وقف إطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية.
وتوحّد أعضاء «البوندستاغ» (البرلمان الألماني) جميعهم من دون استثناء، في التعهّد بمنح دولة الاحتلال «التضامن الكامل»، و«التأييد الحاسم»، من دون أيّ إشارة إلى مسألة حقوق الإنسان، أو مقتضيات القانون الدولي، كما جرت عليه عادة البرلمانيين الألمان عند التهجّم على الأنظمة التي يتّهمونها بـ«الديكتاتورية»، مِثل إيران أو سوريا. لا بل إن وزير العدل الألماني، ماركو بوشمان، اعتبر علناً أن «مَن يحتفل بإرهاب (حماس) - أي هجوم السابع من أكتوبر - ليس منّا». ومن جهته، سمح الجيش الألماني لسلاح الجو الإسرائيلي باستخدام اثنتَين من طائرات قتالية من دون طيار متطوّرة من طراز «هيرون-تي بي» كانت قد اشترتها ألمانيا من الصناعات العسكرية الإسرائيلية، وظلّت في الأراضي المحتلّة، حيث كان يجري تدريب جنود ألمان على استخدامها. وقالت مصادر في وزارة الدفاع الألمانية إن العمل جارٍ لتزويد الجيش الإسرائيلي بما يحتاجه من أدوات ومعدّات طبية، وفقاً لقائمة طلبات أرسلتها تل أبيب إلى برلين، بالإضافة إلى ترتيب نقل جرحى العمليات العسكرية الإسرائيلية للعلاج في مستشفيات ألمانية.
تُظهر أرقام ألمانية رسمية ترصد الحوادث المصنّفة تحت عنوان «العداء للسامية» بأن أكثر من 80% منها يتسبّب فيه متطرّفون نازيون ألمان


وليست وسائل الإعلام الألمانية الرئيسية أقلّ فجوراً لجهة الانحياز إلى دولة الاحتلال، إذ أيّدت القنوات التلفزيونية والصحف الكبرى حصار غزة، داعمةً الجرائم التي تُرتكب في حقّ المدنيين بحجّة «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها». وحتى مع توالي الأنباء عن مزيد من المذابح المرتكبة في غزة، واستهداف الأبراج السكنية والمستشفيات والمدارس والكنائس، فإن مقالات المثقّفين والإعلاميين الألمان في الصحف والمواقع الإخبارية الألمانية لم تخرج - من دون استثناء تقريباً - عن معزوفة التبرير للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، فيما آثر بعضهم السلامة، واكتفى بالصمت المطبق. أمّا على مستوى الشارع، فقد حظرت السلطات الألمانية جميع أشكال الاحتجاجات المؤيّدة للفلسطينيين، بما فيها تلك التي ينظّمها اليهود الألمان. وقمعت الشرطة بعنف مفرط كلّ التظاهرات المتضامنة مع سكان غزة، وجرّمت مَن يشترك فيها، فيما تعدّدت حوادث التوحّش في الاعتداء على المحتجّين واعتقالهم وتغريمهم، ومُنعت أيّ مظاهر لإظهار التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين، بما في ذلك إضاءة الشموع أو حمل الأعلام الفلسطينية، إلى درجة أن «منظمة العفو الدولية» اضطرّت إلى إصدار بيان يقرّع حكومة برلين، ويذكّرها بمبدأ حقّ المواطنين في التجمّع الذي يكفله - نظريّاً - القانون الألماني.
وتحدّثت صحف غربية عن نشاط مضاعف لقوات مكافحة الشغب الألمانية، في الأسبوعَين الماضيَين، في منطقة نويكولن (جنوب برلين)، التي تقطنها غالبية من أصول فلسطينية وعربية، إذ استبقت الاحتجاجات الشعبية المؤيّدة للفلسطينيين في هذه المنطقة بتدابير صارمة أشبه بالحصار، واستخدمت القوّة المفرطة وخراطيم المياه ورشقات الفلفل الحار لتفريق التجمعات، واعتقلت شباباً قصّراً لارتدائهم ملابس بألوان العلم الفلسطيني. كذلك، تناقل ناشطون مشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي لرجال الشرطة وهم يعتدون بالضرب المبرح على رجل شوهد راكعاً بهدوء أمام دائرة صغيرة من الشموع التي وضعت تخليداً لأرواح الفلسطينيين، فيما ألقت الشرطة في الجوار القبض على امرأة يهودية تحمل الجنسية الإسرائيلية أثناء محاولتها قراءة رسالة تدعو إلى السلام ومناهضة الحرب على غزة. كذلك، تحدّث صحافيون عن تعرّضهم لمعاملة عنيفة من رجال الأمن، رغم حملهم ما يشير إلى مهنتهم. وكانت شرطة برلين قد أعلنت، بعد أيام قليلة على هجوم السابع من أكتوبر، أنّ ترديد شعار «من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرّة» معادٍ للسامية، ويجرّم من يردّده. كما وجّهت كاتارينا غونتر-فونش، عضوة في لجنة التعليم في مجلس الشيوخ الألماني، رسالة إلى جميع مديري المدارس في برلين تحثّهم فيها على منْع الطلاب من ارتداء «الرموز المؤيدة للفلسطينيين، مثل الكوفية». وكتبت: «أيّ عمل أو تعبير عن الرأي يمكن فهمه على أنه تأييد أو موافقة على الهجمات ضدّ إسرائيل، يشكّل تهديداً للسلام في المدارس، وهو محظور قانوناً».
ومن المفهوم أن ماضي ألمانيا النازي دائماً ما ألقى بظلال ثقيلة على الحياة السياسية في هذا البلد. ولذا، فإن تأييد إسرائيل ودعمها وتمويلها، ليس بالأمر الجديد بالنسبة إلى غالبية الألمان الذين يقدّم كثيرون منهم اليوم حقّ الإسرائيليين في الوجود و«الدفاع عن النفس» على كلّ أشكال النزاهة الأخلاقية أو التعددية الديموقراطية، وذلك باسم التصالح مع جرائم ارتكبها أجدادهم في حقّ يهود بلادهم. وتبرّر الشرطة الألمانية قمعها للتظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين على أراضيها بأنها قد ترفع «شعارات تحريضية معادية للسامية»، فضلاً عن «تمجيدها للعنف ضدّ اليهود»، وكأن «العداء للسامية» ظاهرة مستوردة جلبها الفلسطينيّون والعرب المهاجرون معهم، وليست ثمرة طبيعية للبيئة العنصرية المتجذّرة في الثقافة الألمانية.
واللافت أن الصوت الوحيد المعارض لكل هذا الجنون، يأتي تحديداً من يهود ألمان، إذ نشر فنانون وكتّاب وباحثون يهود ألمان، كما إسرائيليون مقيمون في برلين، رسالةً مفتوحة، أعربوا فيها عن معارضتهم الصريحة لانتهاكات الحريات المدنية في ألمانيا تحت ستار «سلامة اليهود، كيهود». وقالوا إنهم يرفضون بلا تردّد «هذه الذريعة لممارسة العنف العنصري ضدّ جيراننا العرب والمسلمين، ونُعرب عن تضامننا الكامل معهم، بخاصة الفلسطينيين». وأكدوا أن ما يخيفهم حقاً ليست تلك التظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين، بل «ذلك المزاج العنصري الغالب وكراهية الأجانب المتفاقمة في ألمانيا». وعلّق أحد الموقّعين على الرسالة المفتوحة، بمرارة، قائلاً إنه يشعر «بصعوبة حقيقية في إقناع المؤسّسات والسياسيين في ألمانيا بالاعتراف بأن الفلسطينيين بشر».
وتُظهر أرقام ألمانية رسمية ترصد الحوادث المصنّفة تحت عنوان «العداء للسامية» بأن أكثر من 80% منها يتسبّب فيها متطرّفون نازيون ألمان. ويتمتّع حزب ألماني متطرّف معادٍ للمهاجرين وللاتحاد الأوروبي بتأييد ربع الألمان على الأقل، فيما يُعتقد على نطاق واسع بأنه سيكون لاعباً رئيسياً في السياسة الألمانية، عند عقد أيّ انتخابات عامة مقبلة. ولذلك، فإن الانحياز الألماني الأعمى إلى الجانب الإسرائيلي، والحظر الشامل لمظاهر التأييد للفلسطينيين، لن يفعلا كثيراً للحدّ من «معاداة السامية»، لكنهما يعزّزان بالضرورة مناخاً من الخوف، وانعدام الثقة، والاستقطاب بين مكونات المجتمع الألماني، سيؤدّي حتماً، حال تمادي النخبة في مواقفها، إلى انقسامات ثقافية وعرقية وربّما طبقية، أبعد من مجرّد الخلاف حول الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.