رام الله | ما إن يحلَّ الليل، حتى تتحوّل الضفة الغربية إلى ساحة اقتحامات ومناورات لجيش الاحتلال، يستعرض فيها الأخير فائق قوته ويمارس إرهابه، رافعاً شعار الانتقام وممارسة القتل والتنكيل والتدمير. وتكاد لا تسلم مدينة أو قرية أو بلدة في الضفة من تلك الاعتداءات، التي لا زمان لها أيضاً، إذ يصل جيش العدو الليل بالنهار في ما يقوم به. وهكذا، لا تمرّ أيّ ليلة من دون أن تتلوّن بالدم من أقصى شمال الضفة إلى جنوبها، على غرار الليلة الفائتة التي سجّلت ارتقاء 10 شهداء في محافظات جنين ونابلس والقدس والخليل، وإصابة أكثر من 20 آخرين، منهم اثنان بجروح خطيرة.وتعيش الضفة، التي تخضع لاحتلال عسكري مباشر، منذ بدء العدوان على قطاع غزة، حالة أمنية مكثّفة وانتقامية، تُتيح للجنود تسهيلات في إطلاق النار على الفلسطينيين لغاية القتل، وتبيح لهم تدمير كلّ ما تمرّ عليه الجرافات والدبابات وتخريبه، وفرض عوازل بين القرى والبلدات وتحويلها إلى سجون كبيرة، وشنّ حملات اعتقال وتنكيل واعتداءات، وصلت حصيلة الشهداء في نتيجتها في أقلّ من شهر فقط إلى 144 شهيداً، فضلاً عن اعتقال نحو ألفَي أسير. ويأتي ذلك كلّه، للمفارقة، بينما لا يكفّ المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون عن إبداء مخاوفهم من انفلات الأوضاع في الضفة، وهو ما يعني بالضرورة العمل على منع أيّ شكل من أشكال مقاومة الاحتلال من جهة، ورضوخ السلطة الفلسطينية لهذا الواقع وتماهيها معه من جهة أخرى، في وقت يُطلَق فيه العنان للمستوطنين لاستباحة الضفة وممارسة إرهابهم على أبنائها من دون حسيب أو رقيب.
في هذا الوقت، بات مخيم جنين هدفاً مركّزاً لجيش الاحتلال، إذ يتعرّض لما معدّله 3 إلى 4 اقتحامات واسعة وعنيفة أسبوعياً منذ بدء العدوان على غزة، بهدف استنزاف قدرات مقاتليه الجسدية والمادية، والضغط على البيئة الحاضنة فيه وإمكاناتها. وتعرّض المخيم، ليل الخميس - الجمعة، لاقتحام واسع، بدأته قوات خاصة إسرائيلية بالتسلّل بحافلة صغيرة ومركبة أخرى، جرى كشفهما سريعاً ومحاصرتهما وإمطارهما بالرصاص فور ترجّل الجنود منهما في حي الهدف، ليدفع جيش الاحتلال إثر ذلك بعشرات الآليات العسكرية. ولأكثر من 8 ساعات، دارت اشتباكات مسلّحة عنيفة، شهدت عمليات كرّ وفرّ وتفجير عبوات ناسفة شديدة الانفجار بآليات الاحتلال، كان أبرزها تفجير عبوة ناسفة بمدرعة «النمر» في منطقة الساحة، إضافة إلى الكمين الذي استهدف القوات الخاصة في بداية الاشتباك، وأوقع في صفوفها قتلى وجرحى.
إزاء الوضع المتفجر الميداني في الضفة الغربية، واستمرار العدوان على غزة، لا تزال السلطة الفلسطينية تتّخذ موقف المتفرج


وفي المقابل، نفّذت الجرافات العسكرية الإسرائيلية عمليات تخريب واسعة تُضاف إلى ما أحدثته من خراب في اقتحامات الأيام الماضية. كما لجأ جيش الاحتلال، كما في المرّات السابقة الأخيرة، إلى استخدام طائرة مسيّرة لاستهداف أحد منازل المخيم، ما أسفر عن استشهاد الشابَّين وسيم زيود (23 عاماً) ويامن جرار (17 عاماً)، فيما تعرّض منزل آخر لإطلاق صواريخ «أنيرغا». كذلك، استشهد ثلاثة مواطنين برصاص جيش العدو في المواجهات هم: سليمان ستيتي (31 عاماً) وجهاد نغنغية (26 عاماً) ومعتز أبو الندى (26 عاماً)، في حين أُصيب 14 آخرون، اثنان منهم بجروح حرجة. وبعدما دمّرت في الاقتحامات الأخيرة بعض رموز المخيم، مثل حصان الحرية وأسوار المدخل، عادت قوات الاحتلال وهشّمت، أمس، نصب الشهيد جميل العموري الذي يُعدّ مجدّد الاشتباك في جنين والضفة.
وشهدت مدينة نابلس، هي الأخرى، اقتحاماً واسعاً من قوات الاحتلال بأكثر من 40 آلية عسكرية، وسط اشتباكات استمرّت ساعات، بخاصة في حيّ المساكن الذي حاصره جنود العدو لتفجير منزل الأسير خالد خروشة المتّهَم مع والده الشهيد عبد الفتاح خروشة بتنفيذ عملية حوارة، التي أدّت إلى مقتل مستوطنَين اثنين في أيار الماضي. وبالمثل، شهد مخيم الفوار في مدينة الخليل اقتحاماً واسعاً ومواجهات عنيفة، قام الشبان فيها بإلقاء زجاجات حارقة وإطلاق نار في اتجاه قوات الاحتلال، التي أطلقت الرصاص الحيّ عشوائيّاً على المواطنين، كما قامت بمداهمات لمصادرة معدّات، ليُسجّل استشهاد الشابَّين محمد سعيد العزة ووديع النجار، وإصابة 4 آخرين أحدهم إصابته خطرة.
كذلك، استشهد الشاب إبراهيم زايد، جراء إطلاق قوات الاحتلال النار عليه، أثناء اقتحام مخيم قلنديا للاجئين شمال القدس المحتلة، والذي شهد مواجهات عقب الاقتحام، أدّت أيضاً إلى إصابة شابَّين آخرين، وُصفت حالة أحدهما بالخطيرة. كما استشهد الشاب يوسف شاهين، جراء إطلاق جنود العدو الرصاص الحيّ صوبه، في قرية بدرس غرب رام الله، أثناء خروجه من المسجد عقب أداء صلاة الجمعة. وفي نابلس، أُعلن عن استشهاد الشاب عاصم رمضان، متأثراً بجراحه التي أُصيب بها برصاص الاحتلال قبل يومين، في وقت تعرّضت فيه عشرات القرى والبلدات لمداهمات وشهدت مواجهات واعتقالات، بلغت حصيلتها ليلة الجمعة فقط 55 معتقلاً.
وإزاء هذا الوضع المتفجّر في الضفة، واستمرار العدوان على غزة، لا تزال السلطة الفلسطينية تتّخذ موقف المتفرّج الذي ينتظر الفرصة المؤاتية له، لتعزيز مكاسبه المالية والسياسية، في ظلّ مراهنتها على دورها الميداني في احتواء الموقف الشعبي، وأهميته بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة. إذ يعارض بعض أركان حكومة الاحتلال، بخاصة المسؤولين الأمنيين، توجهات وزير المالية نحو حجب أموال المقاصّة عن السلطة، فيما تعوّل رام الله أيضاً على موقف واشنطن التي لا تحبّذ تصعيداً في الضفة، ويمكن أن تضغط على تل أبيب لمواجهة تصاعد إرهاب المستوطنين، والسماح بتحويل أموال المقاصّة.