يُكثّف جيش الاحتلال ضغطه على مدينة غزة، في محاولة لوقف تعاظم الأكلاف التي يتكبّدها، والتي من المتوقّع أن ترتفع أيضاً إذا ما اشتدّت حدّة المعارك البرية. وعلى الرغم من مرور شهر على بدء الحرب، وما يزيد على أسبوع على انطلاق العملية البرية، لم يستطع الجيش تقديم صورة نصرٍ واحدة، فيما لا تزال نقاط ضعفه الأساسية ثغراً كبيرة ينفذ منها مقاتلو المقاومة، لإيقاع الخسائر في صفوفه، باستخدام شبكة الأنفاق والصواريخ المُضادّة للدروع. وكثّفت الطائرات والبوارج الحربية الإسرائيلية، ليل الأحد - الإثنين، غاراتها بشكل «غير مسبوق» على شمال غرب غزة، في ما يعدّه المحلّل العسكري في صحيفة «معاريف»، طال ليف-رام، ترجمة إضافية لزيادة الضغط على مدينة غزة، على اعتبار أن تقدّم «المناورة» البرية يُصبح أبطأ في هذه المرحلة، بسبب كثافة ساحة المعركة الدائرة في بيئة مدينة حضرية. ولذلك، فإن القصف المكثّف «يأتي في محاولة لمساعدة القوات البرية لكي تتابع التقدّم إلى المناطق التي لم تطأها أقدامها بعد. بمعنى آخر، فإن القصف يُنفّذ من أجل إلحاق ضرر بأنفاق حماس وزيادة الضغط على مراكز الحركة»، في محاولة لمراكمة «الإنجازات العسكرية الإسرائيلية».وفي الوقت نفسه، يعترف ليف-رام باستمرار «حملة الجيش ضد محيط مستشفى الشفاء، ومستشفيات أخرى في القطاع»، بزعم استخدامها من قِبل «حماس»، مدّعياً أن قوات «الفرقة 36» فتحت «معبراً آمناً» في محور مستوطنة «نيتسريم» (سابقاً)، من أجل مرور الفلسطينيين من شمال القطاع إلى جنوبه؛ إذ بناءً على تقديرات الجيش «فقد تبقّى مئات الآلاف من الفلسطينيين، فيما ستقوم حماس بتصعيد عملياتها، من أجل أن تثبت لهؤلاء أنها لا تزال ممسكة بزمام الأمور في محاولة لإقناعهم بعدم التحرّك جنوباً». لكنّ الواقع يقول إن جيش الاحتلال يستهدف كلّ سيارة أو قافلة تخرج من الشمال إلى الجنوب عبر محور «نيتسريم» أو غيره، على رغم زعْم العدو أن «الكثير من الفلسطينيين عبروا (أمس، وأول من أمس) من المعبر الآمن الجديد من الشمال إلى الجنوب». كذلك، يعترف المحلّل العسكري بأن الجيش يستمرّ في «تركيز الجهد على تحريك السكان المدنيين، من أجل توفير «حرية أكبر» لعمل القوات في الميدان»، في إشارة إلى القصف العنيف والمكثّف الهادف إلى دفع السكان إلى مغادرة شمال القطاع.
في هذا الوقت، يواصل جيش الاحتلال محاولاته «تعميق الطوق حول مدينة غزة، دافعاً بألويته إلى مناطق حضرية كثيفة للغاية قريبة من البحر، مثل حي الشيخ عجلين الواقع جنوب غرب المدينة الذي قاتلت فيه قوات الجيش آخر مرّة في (عدوان) الرصاص المصبوب عام 2008»، وهو ما ينطبق أيضاً على حي تل الهوا المجاور، غربي المدينة؛ إذ ما يُميّز هذين الحيين هو احتواؤهما على مبانٍ عالية ومراكز حضرية مميزة. أمّا في القطاعات الأخرى، فإن التحدي الذي يواجه كبار القادة هو «منع انحراف» القوات في الميدان، ما قد يُمكّن «حماس» من استغلال ذلك، في ظلّ تقديرات لدى الجيش بأنه «استطاع بالفعل إلحاق أضرار بقدرات السيطرة والقيادة التابعة لحماس في المدينة».
يتزايد القلق في إدارة بايدن من عدم وضع إسرائيل خطة واضحة للخروج من الحرب التي تشنّها على غزة


مع ذلك، بحسب المحلّل العسكري نفسه، وبمعزل عن التصريحات «المُبالغ فيها» التي يطلقها جنرالات متقاعدون في استديوهات التلفزة الإسرائيلية، يبدو «الجيش أكثر حذراً؛ فبالرغم من القصف العنيف والمكثّف، والذي ألحق أضراراً بالأنفاق، فإن التقدير هو أن حماس لا تزال بعيدة جداً عن نقطة الانكسار»، وهو ما يُفسر «الرسالة الرئيسيّة والمكرورة في الأيام الأخيرة، والتي ما فتئ الجيش يبعث بها، ومفادها أن الحرب على غزة من المتوقّع أن تكون طويلة، ولذلك ينبغي التحلّي بالصبر»، أي إن الجيش لن يُسارع في هذه المرحلة إلى إجراء سريع ستكون نتيجته أكلافاً مضاعفة في صفوف قواته البرية. وفي هذا الإطار، يؤكّد الجنرال في جيش الاحتياط، غيورا أيلاند، في مقابلة مع «القناة 12» الإسرائيلية، «غياب أيّ مؤشرات على انكسار حركة حماس»، قائلاً: «إننا نراهم يقومون بعمليات متناسقة ومعقّدة من خلال طائرات مُسيّرة وقذائف هاون وصواريخ مضادّة للمدرّعات. هؤلاء ليسوا أفراداً يدافعون عن حياتهم، بل نظام يعمل بشكل متكامل». واعتبر أن «حماس لا تزال قادرة على تحريك قواتها من مكان إلى آخر، وهي تسيطر على الأقل على 80% من الأنفاق تحت الأرض، كما تردّ بسرعة على تحركات وعمليات الجيش الإسرائيلي»، مشيراً إلى أن «غزة لا تزال أكبر وجهة متحصّنة في العالم».
وبالعودة إلى ليف-رام، فهو يلفت إلى أن ما يقلق الجيش هو «التقييم الذي يعكس واقع القتال الميداني»؛ إذ إن «شبكة مترو أنفاق حماس تُعقّد القتال في المنطقة المبنيّة بشكل كبير، فحتى بعد استمرار قوات الجيش في التقدّم على الأرض، تحاول قوات حماس الاستفادة من الأنفاق من أجل تعقّب القوات المتقدّمة وتكبيدها الخسائر، فيما تمثّلت غالبية الإنجازات التكتيكية لحماس في إيقاع قتلى وجرحى من خلال استخدام مضادات الدروع». ويذكّر المحلّل بأنه في الوقت الذي يبدو فيه أننا أمام عملية كبيرة ينفّذها الجيش في مدينة غزة بطريقة «جيدة ومنظّمة»، في منطقة معقّدة للغاية، يَمثل الهدفان الكبيران للحرب: «هزيمة حماس، عسكرياً وحكومياً، وإعادة المختطفين إلى بيوتهم». ومن أجل هزيمة حماس «سيستغرق الأمر وقتاً طويلاً، وربما أشهراً، حيث ستكون هناك حاجة إلى عمليات أخرى خارج مدينة غزة نفسها، أي في داخل مخيمات اللاجئين الواقعة في الوسط - خان يونس على محور فلادلفيا. وبينما تقول إسرائيل إنها تسعى لإدارة الجهد الحربي في غضون أشهر، يبدو أن الأميركيين يتحدثون عن أسابيع. على أيّ حال، مع مرور الوقت، وبعد التحرك المكثّف ضد مدينة غزة نفسها، فإن استمرار الحرب في مدن ومناطق أخرى في القطاع قد يثير خلافات واضحة في المواقف بين إسرائيل والولايات المتحدة. وإلى حين ذلك، من المشكوك فيه أن تؤدي العملية إلى إطلاق سراح المختطفين».
ما تقدّم، يتقاطع مع ما ذكره المحلّل العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، الذي قال إنه «في نهاية اليوم الثلاثين للحرب، يفضّل ألا نوهم أنفسنا؛ إذ ليس لدى إسرائيل وقت مفتوح لمحاربة حماس». فبحسبه، «حتى عندما يتحدث رئيس الوزراء ووزير الأمن ومسؤولون آخرون عن معركة ستستمر كلّ الوقت المطلوب، متعهّدين بالقضاء على حماس وقتل يحيى السنوار، لا يمكن تجاهل عواقب الحرب على الساحة الدولية بشكل كامل، حيث ثمّة اعتبارات يتعيّن على الولايات المتحدة أخذها في الحسبان، رغم دعمها السياسي والعسكري غير المسبوق لإسرائيل». ويلفت هرئيل إلى أن الرسائل الأميركية بشأن مدّة العملية تصل إلى إسرائيل، سواء من الرئيس الأميركي، جو بايدن، أو من البنتاغون، أو من وزير الخارجية، أنتوني بلينكن؛ ومفادها، بحسب مسؤولين إسرائيليين مطّلعين على المحادثات، أن السؤال ليس ما إن كان الصبر الأميركي سينفد أم لا؟، وإنما السؤال هو متى؟، خصوصاً أن ثمة قلقاً في الإدارة من عدم وضع إسرائيل خطة واضحة للخروج من الحرب التي تشنّها على غزة.
وبينما يتجاهل رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، في الوقت الحالي، الخوض في هذا النقاش، فإن بايدن قد يتأثّر باستطلاعات الرأي التي تسبق الانتخابات، وتعالي الأصوات الأميركية المحتجّة على قتل المدنيين الفلسطينيين، والذي سيزيده زخماً توغّل القوات الإسرائيلية إلى قلب مدينة غزة، حيث من شأن هذا الأخير أن «يزيد من مخاطر ارتكاب أخطاء، سواء أثناء إنقاذ قوة ستحتاج إلى مساندة جوية ما سيوقع مدنيين (فلسطينيين) كثيرين، أو بسبب الاكتظاظ الذي يدور فيه القتال، وبالتالي احتمال استهداف عدد أكبر من المدنيين»، علماً أن ذلك ما تفعله طائرات الاحتلال منذ شهر. وطبقاً لهرئيل، فإن الوضع في القطاع «سيزداد مأساوية مع حلول فصل الشتاء... وبسبب الدمار الهائل، سيمتلئ القطاع بالوحل، وعندها سيكون من الصعب الحفاظ على استمرار عمل شبكات المياه والصرف الصحي، فيما لا تزال جثامين فلسطينيين تحت الأنقاض، ما يُنذر بانتشار أمراض وأوبئة. وهذا الخطر يشتدّ في جنوب القطاع أيضاً بسبب الازدحام الشديد إثر النزوح إلى مناطق الجنوب».