استضافت مدينة جوهانسبرغ الجنوب أفريقية، منتدى «قانون النمو والفرص الاقتصادية في أفريقيا» (أغوا)، بين الثاني والرابع من الجاري، تحت شعار «المشاركة من أجل بناء "أغوا" مرن ومستدام وشامل لدعم التنمية الاقتصادية والتصنيع وخلق فرص عمل لائقة». وحضر المنتدى مسؤولو 35 دولة أفريقية (جنوب الصحراء)، إلى جانب وفد أميركي رفيع المستوى برئاسة وزير الخارجية، أنتوني بلينكن. وقد استبق البيت الأبيض، عقدَه، بالإعلان عن تأييد الرئيس الأميركي، جو بايدن، تمديدَ القانون، الذي يُفيد اقتصادات الدول الأفريقية عبر حُزم إعفاءات جمركية قطاعية، تجاوزت قيمتها، وفق تقديرات وزارة الخزانة الأميركية، الـ10 مليارات دولار (قدّرتها «فايننشال تايمز» البريطانية بـ15 ملياراً، في تضارب يعود إلى طبيعة التسهيلات التي يوفّرها «أغوا» للقطاع الخاص) لمصلحة جميع الدول الأفريقية المشمولة في القانون، والذي كان المقرّر وقف العمل به، في أيلول 2025، أي بعد مرور ربع قرن على توقيع الكونغرس الأميركي عليه، عام 2000، في عهد الرئيس الأسبق، بيل كلينتون.

"أغوا" والمشروطيّة الأميركية: جهود دحر التعاطف مع فلسطين؟
أعاد قرار الولايات المتحدة، قبيل القمّة بساعات، حرمان أربع دول أفريقية، هي: أوغندا، الغابون، النيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى، من التمتّع بمزايا «أغوا»، إلى الأذهان، مقاربةَ واشنطن العقابية لدول القارة. ورغم أن الغابون تُعتبر المتضرّر الأكبر من الخطوة الأميركية (إذ بلغت قيمة صادراتها - مستفيدة من «أغوا» - للولايات المتحدة، في عام 2022، 220 مليون دولار، مقارنةً بصادرات أوغندا المقدّرة بنحو 173 مليون دولار، فيما لم تتجاوز صادرات كلّ من جمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر المليون دولار في عام 2021 للأولى، وعام 2022 للثانية)، فإنّ شمول القائمة أوغندا على خلفية ما وصفه البيت الأبيض بـ«الانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان الدولية»، كشف إلى حدٍّ كبير انتقائيةً في سياسات الولايات المتحدة الأفريقية، وعدم تبنّيها معايير واضحة. كما أن تأخُّر اعتماد واشنطن وصْف ما جرى في النيجر (تموز الماضي)، ثم الغابون (آب الماضي)، بـ«الانقلاب العسكري»، يُبرز فشلها في احتواء التطوّرات اللاحقة في هذين البلدَين.
ولكن ملاحظة تصويت كلّ من أوغندا والغابون لمصلحة قرار الأمم المتحدة (28 الماضي) بخصوص فلسطين، الذي نصّ على فرْض هدنة إنسانية فورية في غزة، تؤدّي لاحقاً إلى وقف الأعمال العدائية، وتضمّن إقراراً من الجمعية «بالرفض الحاسم لأيّ محاولات للترحيل القسري للمدنيين الفلسطينيين» من أراضيهم، تُشير إلى ضرورة وضع السلوك الأميركي في سياق جهود إدارة بايدن الحثيثة لمواجهة المدّ الأفريقي الداعم للقضية الفلسطينية بكلّ السبل المتاحة، ومن بوابة «أغوا» في المرحلة الحالية. وتتّضح تلك الخلاصة عند الرجوع إلى تصريحات كبير ديبلوماسيّي أوغندا في الأمم المتحدة، أدونيا أيبير، عقب التصويت مباشرة، حين أكّد أنّ موقف بلاده «هو أن السلام الدائم سيتحقّق عبر المفاوضات التي ستقود إلى حلّ الدولتَين، حيث تعيش إسرائيل وفلسطين جنباً إلى جنب في سلام»، وهي رؤية تتّفق إلى حدّ كبير مع مجمل خطاب الرئيس الأوغندي، يوري موسيفني.
أمّا الغابون، التي انتقدتها الإدارة الأميركية، مبرّرةً قرار معاقبتها (مع النيجر) بأنها لم تُنجز أيّ تقدُّم يُعتدّ به في مسائل من مثل «التعددية السياسية» أو «حكم القانون»، فقد جاء تصويتها لمصلحة القرار مفاجئاً لدوائر صنع السياسات في واشنطن، إذ مثّل مؤشراً خطيراً - ظاهريّاً على الأقلّ - إلى توجّهات نظام أوليغي نغويما، الذي تولّى رئاسة البلاد وعُيّن رئيساً جديداً للوزراء في أيلول الماضي، بعيداً من «المعسكر الغربي»، فيما جاء شمول جمهورية أفريقيا الوسطى بالقرار الأميركي، على خلفية «صلاتها بمجموعة "فاغنر" شبه العسكرية التي صنّفتها الخزانة الأميركية كمنظّمة دولية إرهابية ارتَكبت فظائع إنسانية».

جنوب أفريقيا و«أغوا»: الاقتصاد أولاً؟
تصدّرت جنوب أفريقيا الجهود الأفريقية المنسّقة لمخرجات اجتماع «أغوا» في جوهانسبرغ، ليس لاعتبار استضافة المنتدى فقط، ولكن أيضاً لجهة حجم الشراكة الاقتصادية مع واشنطن، إذ يحتلّ هذا البلد رأس لائحة الدول الأفريقية (جنوب الصحراء وشمالها) المصدِّرة إلى الولايات المتحدة، بقيمة تجاوزت الـ15 مليار دولار العام الماضي. كما قادت بريتوريا، التي بلغت تجارتها مع بكين حاجز الـ56 مليار دولار في عام 2022 على الرغم من أن أحد أهداف «أغوا» المعلَنة مواجهة التمدّد الصيني في القارة وجنوب أفريقيا تحديداً، الجهود الأفريقية الحثيثة لتمديد الكونغرس لهذا القانون مدّة عشرة أعوام أخرى، حتى عام 2035، من أجل تعزيز نمو القطاع الخاص في أفريقيا، ولا سيّما في قطاع المنسوجات والملابس.
وفيما أثارت استضافة جنوب أفريقيا القمّة، اعتراضات أميركية ملفتة، ولا سيّما من عضو «لجنة الشؤون الخارجية»، السناتور جيم ريش، على خلفية صلات بريتوريا الوثيقة «بروسيا وإيران وحماس»، فضلاً عن شراكتها الإستراتيجية المتينة والآخذة في النموّ مع الصين، فإن مخرجات الاجتماع لم تتّضح بعد، ولا سيّما أنّ بيان بايدن بخصوص مسألة تمديد القانون رمى الكرة في ملعب الكونغرس. ويَظهر من تحرّكات بريتوريا، وديبلوماسيتها النشطة في ملفّاتها كافة، بما في ذلك ملفّ العدوان على قطاع غزة والذي يثير تعاملها معه غضب دوائر أميركية ديموقراطية وجمهورية على حدّ سواء، أن قدرة الأولى على موازنة مصالحها الاقتصادية تزداد قوّة، بعدما باتت تمتلك خيارات وبدائل متنوّعة على نحو غير مسبوق.
قرّرت واشنطن حرمان أربع دول أفريقية، هي: أوغندا، الغابون، النيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى، من التمتّع بمزايا «أغوا»


وبعد ساعات من اختتام منتدى «أغوا»، بادر الرئيس الأوغندي، موسيفني، إلى شنّ هجوم مضادّ على قرار واشنطن استبعاد بلاده من الاستفادة من مزايا القانون التفضيلية، مقلّلاً من أهمية المخاوف التي أثارتها خطوة الأميركيين الذين «يبالغون في تقديرهم لذاتهم، ويعتقدون أن الدول الأفريقية لا يمكنها المضيّ قُدماً من دون دعمهم». وفي إشارة لافتة، شكر يوسيفني الحكومة الأميركية لاستمرارها في ضخّ تمويل أدوية أمراض نقص المناعة المكتسبة في بلاده، مستدركاً أن أوغندا تبنّت خطّة طارئة للحصول على «هذه الأدوية»، في حال توقُّف المانحين عن الدفع. أيضاً، يشير تركُ الإدارة الأميركية الباب موارباً في ملفّ «أغوا» إلى تنشيط سياسة الترقب ريثما تتّخذ الدول الأفريقية خطوات الانصياع لتوجيهات واشنطن. لكن بريتوريا بادرت إلى خطوة بالغة الدلالة (6 الجاري)، في الاتّجاه المعاكس تماماً، بإعلانها استدعاء جميع ديبلوماسييها من إسرائيل «للتشاور»، على خلفية الموقف المقلق للغاية في غزة، وهي الخطوة الديبلوماسية الأعنف أفريقيّاً ضدّ إسرائيل، والتي يُتوقّع أن تترتّب عليها مواقف أفريقية أخرى ستُسهم بلا شكّ في اتّضاح خطوط المواجهة والمواقف تجاه الأزمة في فلسطين في مسار تاريخي ثوري لا يمكن أن تخطئه العين.
ولم تكتفِ بريتوريا بالإعلان عن تلك الخطوة في توقيت دالّ عقب اختتام أعمال «منتدى أغوا»، بل إن المسوّغات التي قدّمتها كانت دالّة أيضاً على متابعة لصيقة للملفّ الفلسطيني، وعلى أن التضامن التاريخي لنظام «حزب المؤتمر الوطني الأفريقي» مع القضية الفلسطينية أكثر اتّساقاً ونجاعة. إذ أعربت وزيرة الخارجية الجنوب أفريقية، ناليدي باندور، عن قلق بلادها البالغ إزاء استمرار قتل الأطفال والمدنيين الأبرياء في الأراضي الفلسطينية، مؤكدة «(أنّنا) نوقن أن طبيعة استجابة إسرائيل باتت عقاباً جماعيّاً».

خلاصة
وظّفت الولايات المتحدة، في جهد الأمتار الأخيرة على ما يبدو للحفاظ على نفوذها التقليدي في أفريقيا، «منتدى قانون النمو والفرص» لفرض سياسات توجيهية وعقابية على الدول الأفريقية التي بادرت إلى انتهاج مواقف داعمة، حتى في الحدّ الأدنى، لعدالة القضية الفلسطينية و«حلّ الدولتَين»، ووقْف العنف في غزة، كما وقْف سياسات العقاب الجماعي والأعمال الهجمية التي تقوم بها آلة الحرب الإسرائيلية نيابة عن «قوى الاستعمار القديمة والجديدة».