في مقالتي السابقة التي عنونتها «في انتظار المجزرة التالية» ونشرتها على صفحات هذه الجريدة، كتبت «وحتى تأتي المجزرة التالية، نجلس نحن العجزة أمام الشاشات، لنتفرّج على المجزرة، ولنسمع روايات المراسلين الصحافيين من الميدان. فنغضب ونصرخ ونسبّ. ونشاهد في اليوم التالي تظاهرات في العالم لإيقاف المجزرة، فيصير الحديث حول بعض طاولات المقاهي عن قوة الرأي العام العالمي المناصر لنا والمناهض لإسرائيل، وكم سيؤثر هذا على إسرائيل في المستقبل». وكانت هذه الكتابة بمثابة تعبير عن غضب بعد المجزرة التي ارتُكبت في جباليا من ضمن مجازر عدة تحصل في غزة منذ أكثر من شهر. لكنّ هذه الكتابة أيضاً هي تساؤل، عن دور هذا «الرأي العام» الذي لم أعد أرى له أهمية فعلية، طالما أنه غير قادر على التأثير في الحكومات التي هبّت للدفاع عن «المستعمرة». وفي الكتابة السابقة، إشارة إلى «طاولات المقاهي» التي تبدو رمزية لأحاديث المثقّفين، والتي عادة ما تُستخدم للإساءة. إلا أن المقصود لم يكن «إساءة» وإن بدت كذلك. فبعض الأحاديث التي تدور حولها، تطحن الأفكار. لماذا كتبت تلك المقالة؟ لأنه ببساطة لم يكن ذهني حاضراً من هول المجازر المستمرة، وليس سهلاً عليّ استحضار الذهن أثناء وقوع المأساة التي نعيشها. لكن أضع ملاحظة على نفسي وعلى كل انفعال نعيشه في هذه المرحلة، وهذه الملاحظة ليست مطلوبة من الجميع، إلا اللهم من العاملين في شؤون العامة، ومن يكتبون وأمثالهم، لأنهم جزء من أدوات العمل في الميدان الناعم، والكلمة عنوان ومطلوب منها إظهار الحقيقة من جانب، ودفع الناس إلى التفكير السليم في الأمور من جانب آخر، وإلا فهي «سفسطة» ليس إلا، وقد تفعل مفعولاً عكسياً، وهذا ما لا يراد من الكتابة، وهذا لا يعني على الإطلاق عدم النقد، أو عدم الالتفات إلى الأخطاء، إذ يتنافى ذلك وقيمة الكتابة.
لكن، وفي هذه المرحلة، على الكتّاب أن يتحلّوا بالهدوء، وعليهم قراءة المادّة مرة ومرتين وثلاثاً قبل دفعها إلى النشر، بسبب المسؤولية الملقاة على عاتق الكلمات. فمثلاً لو انتظرت قليلاً قبل كتابة تلك المقالة، وجلست مع نفسي من دون متابعة الأخبار المتسارعة عن أعداد الضحايا، لتذكّرت عملية «مقهى الويمبي» في شارع الحمرا في بيروت يوم 24 أيلول 1982 التي نفّذها خالد علوان، وتمكّن من «الانسحاب بسلام».
هذه العملية جرت في مقهى في شارع الحمرا في بيروت أثناء وجود الاحتلال الإسرائيلي في المدينة. وفي مقاهٍ أخرى في بيروت وفي عواصم أخرى كانت تُخطط وتدار بعض العمليات الناجحة.
ولعل من باب الإيضاح أكثر... أنا ضعيف أمام هذه المشاهد الدموية التي نراها يومياً في الشاشات، وضعيف أكثر أمام أعداد الشهداء الهائلة، وضعيف أضعاف ذلك أمام صور الأطفال الشهداء وصرخات أمهاتهم.
هذه الصور مؤلمة من جانب، وهذا حديث كتبته أكثر من مرة، لكنها من جانب آخر، تضعنا أمام تصوّر واضح، وهو وقف عملية الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي والعقل الغربي السياسي والعسكري مجتمعيْن. وهذا يحتّم على الجميع، المبادرة إلى فعل سريع وعمل دؤوب يومي لا يتوقف، بكل الإمكانات وكل أدوات الضغط المتاحة وغير المتاحة عبر الضغط على أصحابها، من أجل وقف هذه الإبادة، وتهيئة الشروط اللازمة من توثيق لأسماء الشهداء وقصصهم وحكاياتهم ومعلوماتهم الدقيقة، لنشرها كقصص عن حياة بترتها القنابل والمدمّرات الإسرائيلية بغطاء غربي كامل، بكل اللغات، ليس فقط من أجل التأكيد على حقيقة المحتل الإسرائيلي، بل من أجل النبذ والرفض التام له ولجمهوره ومن يؤيده في العالم، ومن أجل إفهام العالم أن «معاداة الفلسطينيين» التي بات يُروج لها في مجتمعات الغرب مبنية على جريمة تُرتكب بحق الفلسطينيين وفلسطينهم منذ أكثر من 75 عاماً.
إن توثيق قصص الشهداء كحيوات كانت على هذه الأرض، وقُتلت، من شأنه أن يساعد أيضاً في دعم الأرقام والإحصاءات عن الشهداء والجرحى والمفقودين والأطفال الذين استشهد أهاليهم وأصبحوا يتامى، إضافة إلى توثيق استهداف الطواقم الطبية وطواقم الدفاع المدني والصحافيين، وكذلك توثيق الدمار الذي لحق بقطاع غزة. وعند توفّر كل هذه «الداتا» التي تعمل عليها بعض الجهات المسؤولة في القطاع، مع تشكيل شبكة قانونية فلسطينية عربية دولية، توضع أمامها كل المعطيات والمعلومات لمساعدتها في تحقيق مهمة أساسية، يمكنها أن تبدأ الآن، أو بعد توقف العدوان، في العمل من أجل رفع القضايا أمام الجهات المعنية، وملاحقة إسرائيل قضائياً في المحافل الدولية للمحاسبة.

* كاتب فلسطيني