هذه هي طبيعة الكيان الإسرائيليّ الذي يجمع في جِيناته القيميّة طاغوتيّة الغرب واستعلاءه، وعدوانيّة الصهيونيّة وعنصريتها، التي ما انفك يعبّر عنها بمزيد من التوحّش والمجازر.وهذه هي طبيعة الغرب الذي ما زال إمبرياليّاً استعماريّاً، لا يقيم وزناً إلّا لمصالحه، ولا يعير اهتماماً لأي بعد إنسانيّ -إلّا عندما يتطلب النفاق ذلك- ولا يعبأ بمنطق الحقوق والعدالة لأي شعب، بما في ذلك الشعوب العربيّة والإسلاميّة والشّعب الفلسطينيّ.
وهذه هي أميركا التي ما غادرت جلدها مذْ قامت، وما فارقت غرزَها مذْ قويت، من حروب إبادة، واستعمار، وهيمنة، وانحياز إلى الاحتلال والعدوان، ودعمه بجميع أدوات القتل والدّمار، وشراكة في الجرائم والمجازر.
هذه المشهديّة تبدو على قدر من الوضوح، وواضح أيضاً ما يترتّب عليها من لوازم، إن أردت أن تعيش في وطنك سيّداً حراً مستقلاً، أضف إلى ذلك: منيعاً، قوياً، قادراً على حماية نفسك ومصالحك، والذود عن أرضك وعرضك.
والنموذج اللبنانيّ خير شاهد ودليل، إذ يمكن الحديث عن مرحلتين في التّاريخ اللبنانيّ المعاصر: مرحلة ما قبل المقاومة وقدرتها على الردع، ومرحلة ما بعد المقاومة واشتداد عودها. وإنّ أدنى مقارنة بين المرحلتين تفضي إلى أهمية الدّور الذي تقوم به المقاومة في لبنان في حمايته، والدّفاع عن حقوقه، وفي لجم عدوانيّة الاحتلال الإسرائيليّ وردعه عن ممارسة وحشيته.
لكنّ الإرجاف -الّذي حكى عنه القرآن الكريم- لا يغيب عن هذا المشهد. والإرجاف ليس ظاهرة تاريخيّة، بل هو ظاهرة اجتماعيّة تتوالد مع الزّمن في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة (مُرجفون)، ولدينا في لبنان إعلام إرجاف، وظيفته أن يقلب الحقائق، يشوّه الإنجازات، شيطنة قوى المقاومة ومحورها، بث الذعر والخوف، التّرويج لأقاويل مجرمي الكيان الإسرائيليّ وحماته الغربيّين وحلفائه العرب، إضعاف الثقة بالنفس والقدرات....
لنأخذ على سبيل المثال القضية التّالية: إن عملت المقاومة في لبنان على إشغال العدو جنوباً، وتخفيف الضغط عن غزة المحاصرة، قالوا: تُعرّض المقاومة لبنان للخطر، ويجب الحؤول دون تعريض لبنان لأكلاف أي مواجهة. وإن مارست المقاومة سياسة حكيمة في التّدرج في هذا الإشغال والضغط على العدو، تراهم يبثّون الشكوك في مساندة المقاومة لغزة ومقاومتها. وحقيقة الأمر أنّ قلوب هؤلاء ليست على غزة وأهلها ومقاومتها، وإلّا لو كانوا كذلك، وكانت دموعهم حقاً على أهل غزة، لوقفوا إلى جانب المقاومة، لأنّها الجهة الوحيدة الّتي تدعم -ومحورها- تلك المقاومة في فلسطين، بالفعل والسلاح والميدان. وهي التي تعمل على إفشال جميع خطط العدوّ الإسرائيليّ وأهدافه في إبادة الشعب الفلسطينيّ، وتهجيره، والقضاء على المقاومة لديه.
المرجفون يعيبون توحيد الجبهات بين المقاومة في لبنان وفلسطين والمنطقة، لكنهم في المقابل لا يغيظهم توحّد الغرب وأميركا خلف إسرائيل ومعها.
المرجفون يعيبون على المقاومة في لبنان استجماع جميع عناصر القوة في المنطقة في مواجهة إسرائيل، لكنهم لا يزعجهم التطبيع العربيّ مع هذا الكيان، وما يؤدي إليه من تشجيع له على استمرار عدوانه واحتلاله.
المرجفون يعيبون مساندة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران للمقاومة في المنطقة، لكنهم لا يزعجهم كلّ هذا الدّعم اللامحدود الذي يقدّمه الغرب وأميركا للكيان الصهيونيّ، ولا يسوؤهم هذا التّخاذل العربيّ في دعم المقاومة في فلسطين.
المرجفون علت أصواتهم، ووضعوا أيديهم على قوائم سيوفهم، ودعموا وشغبوا، عندما كان الأمر يرتبط باستهداف الدّولة السّوريّة والحملة العبريّة الخليجيّة الغربيّة على واسطة عقد المقاومة، الّتي فُتحت لها خزائن الخليج وأمدّوها بعشرات آلاف المقاتلين -ولو فعل هؤلاء الأمر نفسه مع فلسطين لتحررت منذ أمد- لكنهم أصبحوا من دعاة التّعقل والواقعيّة والسلام، عندما تعلق الأمر بالكيان الإسرائيليّ، ومن خلفه ومعه أميركا.
المرجفون يغيظهم أن يزور لبنان مسؤول دبلوماسيّ إيراني في سياق إدارة المواجهة السّياسيّة مع العدو الإسرائيليّ، لكنهم لا تزعجهم كلّ تلك الزّيارات لمسؤولين غربيين في سياق نقلّ التّهديد الإسرائيليّ والأميركيّ للضغط على المقاومة في لبنان، للاستفراد بغزة وأهلها ومقاومتها.
المرجفون يتباكون على السّيادة، ويرفعون قميصها على أسنّة الإعلام، ويقيمون مجالس المناحة على الشّاشات، عندما يرتبط الأمر بإستراتيجيّة المواجهة مع العدوّ الإسرائيليّ، وثنائية الجيش والمقاومة؛ لكنهم يتعامون عن انتهاكات السّيادة، عندما تتأتّى من الولايات المتحدة الأميركية، ومن الغرب، بل وحتّى من إسرائيل. وإن كان من كلمة لهم ها هنا، فهو من باب لزوم الخطاب وموضوعيّته والتظاهر بها؛ فهم مصابون بنوع من العَوَر السّياديّ، والانتقائيّة السّياديّة، لأن لا تجزئة في السّيادة، بل إن أرقى صور السّيادة في لبنان تكمن في المقاومة.
إعلام الإرجاف -إعلام التّطبيع مع الكيان الإسرائيليّ- همُّه أن يقلّل من شأن دخول المقاومة في لبنان والمنطقة على خط المواجهة مع الاحتلال الإسرائيليّ ونصرة المقاومة في فلسطين، وفي المقابل تراه يُظهر بعض الإجراءات الدّبلوماسيّة التّضليليّة من قبل الدّول المطبّعة، من سحب سفراء وغيره، على أنّها إنجازات سوف تقلب المعادلات، مع كونها إجراءات لن تغيّر شيئاً، والهدف منها إيهام الشعوب العربيّة وغيرها أنّ هؤلاء الحكام يفعلون شيئاً، ولربما تكون متفقاً عليها مع المسؤولين الأميركيين، بل مع مسؤولي الكيان أيضاً.
كثيرة هي مفارقات الإرجاف في لبنان، بل في منطقتنا العربيّة والإسلاميّة. ولعلّه ومن الجدير الوقوف عند صفات المُرجفين، وتفكيك عقولهم، فضلاً عن الإلفات إلى خطابهم ووظائفهم؛ وإن كان من الواضح أنّ ما يجمعهم هو العداء لكلّ ما يسيء إلى الولايات المتحدة الأميركيّة ومصالحها، وتالياً إلى الكيان الإسرائيليّ. ما يجمعهم هو الاستخدام المضلّل للقيم الوطنيّة والقوميّة وغيرها. ما يجمعهم هو السّعي الدؤوب إلى الإضرار بمكامن القوة في مواجهة الاحتلال والعدوان، وأنهم لا يستسيغون رؤية أحد ما في هذه الأمّة والاجتماع اللّبنانيّ يقف في وجه الغرب ومشاريعه ومخططاته، ويمارس سيادة حقيقية غير منقوصة.
هناك كلام كثير حول الإرجاف والمُرجفين الجدد، لكن قد يكون ذا فائدة الإلفات إلى جملة من مفارقاتهم وصفاتهم وأدوارهم، لمزيد تنبيه إلى خطرهم ومنطقهم، حتّى لا تنطلي أراجيفهم على أحد، ولا يصدّقها من لا علم له بها، وخصوصاً في زمن احتدام الصراع، حيث قد ينتظر البعض منهم شيئاً من حياء أو عقل أو نخوة أو حمية أو وطنيّة أو سيادة حقيقية.... لكن قد يغفل هذا البعض، عن أنّ دور هؤلاء في خدمة أعداء الأمّة والوطن، أشدّ ما يكون في أوقات المحن، وعندما يحتدم الصراع.

* كاتب لبناني