في وقت تتمنّع فيه إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن إدانة الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في قطاع غزة لكلّ مندرجات «القانون الدولي الإنساني»، وإيغال كيان الاحتلال في ارتكاب جرائم إبادة جماعية موصوفة هناك، تبدو السلطات في الولايات المتحدة، بجناحَيها التشريعي والتنفيذي، ماضية في قمع حركة تضامن واسعة مع الشعب الفلسطيني تشهدها الجامعات الأميركية، وتطالب بوقْف الهجمات الإسرائيلية، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ووقف الدعم الأميركي المطلَق لحكومة بنيامين نتنياهو. ولعلّ آخر «الإبداعات القمعية» لواشنطن، أخذ شكل إقرار قانون في الكونغرس بدعوى «مكافحة معاداة السامية»، في موازاة توجيهات أصدرتها إدارة بايدن للمدارس والجامعات، بضرورة اتّخاذ إجراءات فورية لوقف ما سمّته «معاداة السامية وكراهية الإسلام».
الكونغرس والإدارة... رأس حربة الحملة ضدّ فعاليات «يوم المقاومة»
على وقْع ما تشيعه الأجهزة الأمنية الأميركية حول تصاعد التهديدات لليهود على خلفية ما يجري في غزة، وما تزعمه إدارة بايدن بخصوص مساعٍ تبذلها لإقرار «إستراتيجية قومية لمكافحة الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية» (كشف بايدن، منتصف العام الجاري، النقاب عن إستراتيجية إدارته الجديدة لمكافحة «معاداة السامية»، والتي وصفها بأنها «الجهد الأكثر طموحاً وشمولاً الذي تقوده الحكومة الأميركية لمكافحة معاداة السامية على مدار التاريخ الأميركي»)، مرّر مجلس النواب، مطلع الشهر الجاري، قانوناً يجرّم «معاداة السامية»، و»دعم المنظمات الإرهابية»، وفق ما جاء في نصه، ليحذو حذو مجلس الشيوخ الذي سبق أن أقرّ قانوناً مماثلاً قبله بنحو أسبوع. ويدعو القانون، الذي حظي بتأييد 396 نائباً، مقابل اعتراض 23، رؤساء الجامعات، إلى «إدانة جميع أشكال معاداة السامية في جامعاتهم، والتأكد من أن أعضاء هيئة التدريس والطلاب اليهود يمكنهم ممارسة حرية التعبير من دون تخويف». كما يدين القرار، الذي قدّمه رئيس «اللجنة الفرعية للتعليم والقوى العاملة»، النائب الجمهوري بيرغيس أوينز، كلّ مظاهر تأييد حركات المقاومة في الجامعات، بما في ذلك «الإعراب عن مساندة حزب الله»، و»البيانات المؤيّدة لحماس». ويشرح أوينز أن تقدّمه بمشروع القرار المذكور إلى المجلس، كان بدافع انزعاجه ممّا اعتبره «دعوات معادية للسامية بشكل صريح للقضاء على اليهود ودولة إسرائيل عن طريق العنف» من جانب الطلاب المشاركين في التظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين، مضيفاً أنّ «أعمال معاداة السامية البغيضة باتت تنتشر كالنار في الهشيم داخل حرم الجامعات الأميركية».
من جهتها، تشدّد النائبة الديمقراطية، كاثي مانينغ، على أنّ «رؤساء الجامعات يترتّب عليهم مسؤولية أخلاقية لإبداء رفضهم للكراهية والعنف ومعاداة السامية»، مؤكدة أهمية «منْع نشوء بيئة معادية لليهود (في الجامعات)، سواء أكانوا طلاباً، أم موظفين وأعضاء في هيئة التدريس». بدوره، أعلن وزير التعليم الأميركي، ميغيل كادونا، أن هناك «حاجة ملحّة متجدّدة» إلى محاربة التمييز بحقّ الطلاب بفعل تلك الحرب، داعياً المدارس إلى القيام «بواجبها القانوني في حماية الطلاب». وفي معرض تعليقه على «تزايد التقارير عن حوادث الكراهية في الجامعات» الأميركية بحقّ المسلمين واليهود على حدّ سواء، كان أبرزها مقتل رئيسة كنيس يهودي في ديترويت، والعثور على عبارة «الموت لفلسطين» في إحدى قاعات التدريس في «جامعة ييل»، إلى جانب تعرّض طالب أميركي من أصول إسلامية في «جامعة ستانفورد» لحادثة صدم، أشار الوزير إلى أنّ «معاداة السامية وكراهية الإسلام وجميع أشكال الكراهية الأخرى، تتعارض مع كلّ ما ندافع عنه كأمّة».

«دائرة الفعل وردّ الفعل»... القمع «غير الرسمي» متواصل
مع استمرار العدوان على غزة، توالت الانتقادات الشعبية لسياسات كلّ من واشنطن وتل أبيب، وقد تجلّت بشكلها الصارخ في الآونة الأخيرة عبر انسحاب عشرات الطلاب في «جامعة كولومبيا» أثناء محاضرة كانت تُلقيها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، مطلع الجاري، وكذلك في البيان الصادر قبلها عن ائتلاف يضمّ 34 منظمة طالبيّة من «جامعة هارفرد»، والذي جاء مندّداً بنظام الفصل العنصري الذي تمارسه حكومة نتنياهو، ضمن فعاليات ما عُرِف بـ»يوم المقاومة». تلك التطوّرات غير المسبوقة في المجتمع الأميركي، والمصحوبة بتحوّلات في موقف جيل الشباب، بخاصّة اليهود منهم، على نحو «أكثر ابتعاداً» عن إسرائيل، أدرجها معلّقون غربيون في خانة تصاعُد ما يعتبرونه «معاداة السامية»، فيما أشارت صحيفة «واشنطن بوست» إلى أن الحَراك السياسي على مستوى الرأي العام في الولايات المتحدة، والمتّصل بالحرب على غزة، يأتي في سياق قيام «حركة وطنية متعدّدة الأعراق والثقافات والأديان»، تتألّف من جمعيات مطلبية وحقوقية، معادية لإسرائيل، أبرزها طالبية كجمعية «الطلاب الوطنيين من أجل العدالة في فلسطين»، التي لديها أكثر من 200 فرع في جميع أنحاء البلاد، وجمعية «الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين». وأضافت الصحيفة أنّ نشاطات المتضامنين مع فلسطين تستحقّ الثناء، موضحة أنّ «العنفوان الذي اتّسمت به، كان أحد الأسباب التي جعلت السياسيين ذوي الميول الديمقراطية ووسائل الإعلام يبدون شكوكاً متزايدة حيال الهجوم العسكري الإسرائيلي». ولفتت إلى أن أنصار هذا الحَراك التضامني تصدّروا صفوف المناهضين للسياسات الإسرائيلية في ظلّ «إحجام العديد من أعضاء الحزب الديمقراطي المنتخَبين عن إظهار معارضتهم لها».
إزاء هذا المشهد الزاخر بالتعقيدات السياسية والقانونية والأيديولوجية، قرع الإسرائيليون، ومَن معهم مِن داعميهم في المجتمع الأميركي، جرس الإنذار، على نحو دفعهم إلى استنفار أدواتهم الدعائية من «مفكرين» و»إعلاميين»، إضافة إلى نافذين من مجتمع الأعمال، أغدقوا تعابير عنصرية على الناشطين المتضامنين مع فلسطين، من قَبيل وصفهم بـ»العرب البنغاليين السود». وقد كان من ضمن الشواهد على الأمر بدء حملة تشهير بالطلاب المناصرين لفلسطين في «جامعة كولومبيا»، عبر منشورات تصفهم بـ»المعادين الأبرز للسامية»، وهي حملة كانت سبقتها مطالبة مسؤولين تنفيذيين في «وول ستريت» بقائمة أسماء طلاب «جامعة هارفرد» الذين شاركوا في توقيع بيان الإدانة، بغرض منع توظيفهم بعد التخرّج، ومضايقات تعرّض لها عدد من الموقّعين عليه من خرّيجي الجامعات الأميركية، ولا سيّما خرّيجو الجامعة الأميركية العريقة، وصلت إلى حدّ تهديدهم وحرمانهم من عروض عمل كانوا قد تلقّوها، كما فعلت شركة المحاماة الشهيرة «ديفيس بولك».
وضمن الإطار نفسه، يمكن إدراج ما وجّهه الناشط السياسي الأميركي المتطرّف، بن شبيرو إلى النظام التعليمي الجامعي في الولايات المتحدة، من انتقادات، متّهماً إيّاه بـ»الخضوع لهيمنة تيار اليسار»، ومعتبراً أنّه أشبه بـ»آلة غسل الأدمغة التي تُفرز نوعاً مسعوراً من الليبرالية»، وذلك في موازاة انتقادات لاذعة مماثلة تعرّض لها رؤساء عدد من الجامعات، كـ»بنسلفانيا» و»ستانفورد»، بزعم أنهم ضلّلوا طلابهم في شأن مجريات الصراع في غزة. ويضاف إلى ذلك، انسحاب الأثرياء الداعمين للمنح الجامعية (من المناصرين لإسرائيل) من «هارفرد»، وفي طليعتهم الملياردير كينيث غريفين، الذي يُعتبر أحد أبرز داعمي المنح في الجامعة المذكورة، بمبالغ تُقدر بمئات ملايين الدولارات، ورأى أن البيان الطالبي المناهض لإسرائيل «لا يُغتفر»، ليحذو حذوه مدير صندوق التحوّط في الجامعة، بيل أكمان، الذي طالب بوضع قائمة (سوداء) بأسماء أعضاء الجمعيات الموقّعة على البيان. وما بدا لافتاً هو عدم ممانعة الكاتب اللامع وأستاذ العلاقات الدولية في جامعتَي «هارفرد» و»شيكاغو»، ستيفن والت، تقييد حرية الرأي في الجامعات.
في المقابل، أشارت صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، إلى أن ردّ الفعل المشار إليه من قِبَل المتنفّذين في الولايات المتحدة، يحمل دلالات على أنّ «المليارديرات الغاضبين من معاداة السامية يحاولون حظر حرية التعبير في الحرم الجامعي». من جهته، علّق الرئيس السابق لـ»جامعة هارفرد»، لاري سمرز، بالقول: «لم أشعر، خلال ما يقرب من 50 عاماً من الانتماء إلى جامعة هارفرد، بخيبة أمل كبيرة وخوف كبير مثل ما أشعر به اليوم». وأكمل حديثه، معرباً عن تعاطفه مع الطلاب، واستهجانه «مغالاة» المنادين بوضع قائمة سوداء بأسماء الناشطين.