منذ يومها الأول، كشفت الحرب إلى أيّ مدى يمكن تفريغ «ديموقراطية» إسرائيل من معانيها، وإظهارها كناظم أجوف أدار من خلاله الاحتلال علاقته بفلسطينيّي الـ48. ولعل «هبّة أيار» عام 2021، والتي تزامنت مع معركة «سيف القدس»، كانت واحدة من المحطّات المفصلية التي حَسمت، وربّما لمرّة أخيرة وإلى الأبد، حقيقة علاقة المؤسّسة الإسرائيلية بـ»مواطنيها» الفلسطينيين الذين احتلّت أرضهم؛ إذ ظَهرت هذه العلاقة محكومة بمعادلة أمنية لا تختلف كثيراً عن تلك التي تَحكم إسرائيل علاقتها بالفلسطينيين في الضفة والقدس.ليس قمع التظاهرات بالقوّة، وإطلاق الرصاص الحيّ وسقوط شهيدين في اللد وأم الفحم في حينه، واستجلاب أبناء التنظيمات الاستيطانية الإرهابية للهجوم على الفلسطينيين في بيوتهم، وبعد ذلك عمليات الاعتقال الواسعة، ومن ثمّ التعذيب النفسي والجسدي للمعتقلين وسجنهم بأحكام عالية جداً، الدلالات الوحيدة على هذه العلاقة. كما أن كلّ ما تقدَّم لم يكن المؤشّر الوحيد إلى سقوط وهم «المناورة القانونية» باسم «النظام الديموقراطي» الذي اعتمده فلسطينيّو الداخل لسنوات. ويبدو أن إسرائيل تعلّمت الدرس جيداً من «هبّة أيار»؛ فقد وأدت، منذ اليوم الأول للحرب على غزة، أيّ محاولة لرفع الصوت، أو الانتقاد، أو الاعتراض، وصولاً حتى إلى التعاطف. ولو كان في مقدورها، خصوصاً في ظلّ حكم وزير «الأمن القومي» المتطرّف، إيتمار بن غفير، صاحب «اليد الحديدية»، أن تصل إلى داخل قلوب الفلسطينيين وتحاكمهم على الألم الذي يستشعرونه، لَمَا قصّرت. وعلى هذا الأساس، شنّت شرطة الاحتلال وأجهزته الأمنية حملات اعتقال استباقية، أي حتى قبل أن يفكّر أحد بالإعلان عن تنظيم تظاهرة، وفي سبيل ذلك، اعتقلت أيضاً فنانين و«مؤثّرين» وشخصيات قيادية معروفة. ولم يكن السبب وراء اعتقالها المئات، دعوتهم إلى تظاهرة، ولا حتى «التماثل مع تنظيم إرهابي»، بل فقط التعاطف مع أطفال غزة، أو مشاركة آية قرآنية لا أكثر ولا أقلّ، بعدما صنّفت إسرائيل هذا التعاطف، على أنه «تأييد أو تماثل مع الإرهاب».
حملة الاعتقلات والترهيب التي شنّتها المؤسّسة الإسرائيلية أتت متّسقة مع حملات «من الأسفل»؛ إذ نظّم المستوطنون قناة خاصة تحت عنوان «صيادو النازيين»، وفيها جمعوا معلومات شخصية عن فلسطينيين من الداخل والقدس والضفة، وبعثوا بها إلى أجهزة الأمن، لتبادر الأخيرة إلى اعتقال الأشخاص الظاهرين في صورٍ وضعت فيها على وجوههم دائرة حمراء مع رمز (+)، في إشارة إلى أنهم مطلوبون بتهمة الإرهاب. وتقاطع ذلك، مع حملات شنّتها المؤسّسات الأكاديمية الإسرائيلية على الطلبة الفلسطينيين، ففصلت بعضهم، أو بعثت إليهم تطلب استدعاءهم إلى جلسات توبيخ، فضلاً عن قمع الشرطة ست تظاهرات في أم الفحم وحيفا والطيبة، واعتقال منظّميها بعد الاعتداء عليهم وإطلاق قنابل الصوت والغاز والرصاص المطاطي نحوهم، وتقديم لوائح اتّهام ضدّهم تضمّنت تهماً أمنية خطيرة، على رغم سلميّة التظاهرات، وعدم وصولها حتى إلى شوارع رئيسة.
تجسّد الانهيار الكبير لفكرة «المناورة القانونية»، باعتقال رئيس «لجنة المتابعة العليا» محمد بركة


فضلاً عمّا تقدَّم، استغلّ بن غفير حالة الحرب المُعلَنة ليُسلّح عشرات الآلاف من المستوطنين الذين انضمّوا إلى تشكيلات قتالية محلية هدفها «حماية المستوطنات» في أنحاء فلسطين المحتلّة كافة. كما حاول الدفع في اتّجاه تغيير تعليمات إطلاق النار من أجل الاستعداد لقمع أيّ تظاهرة بالرصاص الحيّ، تطبيقاً للدروس المستخلصة من «هبّة أيار». وتوازى التسليح مع اعتداءات شنّها مستوطنون على مساكن الطلبة الفلسطينيين في نتانيا، وفي حي الزيتون في قرية ترشيحا في الجليل الأعلى. وهي اعتداءات لو لم يجرِ احتواؤها في الوقت المناسب، لتحوّلت البلدات الفلسطينية إلى ساحة إعدامات بالجملة. وعلى مستوى القوانين، دفع «الكنيست» بجملة من التشريعات الهادفة إلى لجم أيّ تفكير بالتحرّك، وفي مقدّمتها سحب الجنسية والمواطَنة والإقامة الإسرائيلية ممَّن تثبت عليه تهمة «التماثل مع الإرهاب أو تأييده»، فضلاً عن تجريم «استهلاك وتصفّح وترويج مواد ومنشورات إرهابية»، مع فرض عقوبة السجن الفعلي لمدّة عام على مَن يفعل ذلك.
أمّا الانهيار الكبير لفكرة «المناورة القانونية»، فتجسّد صباح أمس، باعتقال محمد بركة، رئيس «لجنة المتابعة العليا»، وهي أعلى هيئة تمثيلية لفلسطينيّي الـ48، بينما كان يقود سيارته في الطريق إلى موقع الوقفة في الناصرة، ومعه أعضاء «كنيست» سابقون من حزب «التجمّع»، هم مطانس شحادة، وحنين زعبي، وسامي أبو شحادة، وآخرون من أعضاء «المتابعة». وفي خلال اعتقالهم واقتيادهم للتحقيق في محطتَي شرطة بيسان و«مجدال هعيمق»، قبل إطلاق سراحهم بعد ساعات بشروط مقيّدة، أغلقت الشرطة منطقة ساحة العين في مدينة الناصرة، مانعةً تنظيم الوقفة التي كانت ستسجّل صوتاً ضدّ الحرب، وتدعو إلى وقف العدوان على غزة، علماً أنها تظاهرة بدعوة شخصية وليست مفتوحة أمام مشاركة الجماهير.
وفي هذا الإطار، وصف «التجمّع»، في بيان، الاعتداء على الوقفة بأنه «وحشي وغير مبرَّر وسابقة خطيرة»، مشيراً إلى أن ما حصل هو استمرار للسياسة «العدائية ضدّ أيّ موقف أو تعبير عن موقف أخلاقي وإنساني ضدّ الحرب ومع وقفها»، مؤكداً أن «حملة التسكيت والملاحقة وتكميم الأفواه التي تُمارَس تجاه مجتمعنا العربي في الداخل لا تعني تخلّينا عن موقفنا الأخلاقي والإنساني والوطني ضدّ الحرب والجرائم المرتكبة بحقّ المدنيين والأبرياء». من جهته، علّق مركز «عدالة» الحقوقي على ما حدث، بالقول إنه «لم تمرّ 24 ساعة على قرار المحكمة العليا الإسرائيلية، الذي بتّت فيه بشكل واضح وصريح أنه لا توجد للشرطة صلاحية لمنع التظاهرات بشكل جارف في المجتمع العربي. وها هي الشرطة اليوم، تتصرّف بهذا الشكل. نحن نرى أن هذه سياسة ممنهجة في الميدان وهدفها إسكات كلّ انتقاد للسياسة العامة الإسرائيلية، وقمع مشين لحرية التظاهر للمواطنين الفلسطينيين في الداخل وملاحقتهم. الحديث يدور عن توقيف غير قانوني، هدفه حظر أيّ نشاط سياسي». ولكن بن غفير كان منتشياً جرّاء اعتقال عناصر شرطته لبركة ورفاقه، وكتب في منشور: «كل الاحترام لشرطة إسرائيل على اعتقالها عضوَي الكنيست السابقين حنين زعبي، وسامي أبو شحادة، ومحمد بركة، بسبب التحريض والمسّ بسلامة الجمهور، بتظاهرة أرادوا تنظيمها ضدّ الجيش الذي يقاتل النازيين».