لندن | أقال رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، وزيرة داخليته، سويلا برافرمان، بعد سلسلة تصريحات مسيئة إلى المتظاهرين المؤيّدين لفلسطين أدلت بها، إلى جانب مقالة نشرتها من دون تصريح مسبق من رئيس الحكومة، شكّكت فيها في مهنية شرطة العاصمة في التعامل مع هؤلاء. واعتبرت أطراف في المعارضة، كما في الحزب الحاكم، أن تلك التصريحات المسرفة في تطرّفها تسبّبت بإثارة الفوضى، وبإذكاء أعمال العنف التي قام بها متطرّفون فاشيون على هامش الاحتفال بذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى، السبت الماضي، وقبل ساعات قليلة من مسيرة ضخمة نُظّمت للأسبوع الخامس على التوالي في قلب العاصمة البريطانية، لندن، احتجاجاً على الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحقّ المدنيين في قطاع غزة. وقال ناطق باسم «10 داونينغ ستريت» (مقر رئاسة الوزراء في لندن)، إن سوناك طلب من برافرمان مغادرة الحكومة في إطار تعديل وزاري أوسع. وكانت الوزيرة المقالة نشرت، الأسبوع الماضي، مقالة في صحيفة «تايمز» اليمينية اللندنية، اتّهمت فيها قائد شرطة العاصمة، بـ«التساهل، والفشل، وازدواجية المعايير» في التعامل مع «الغوغاء المؤيّدين للفلسطينيين»، في مقابل الطريقة التي تُعامل بها الشرطة المتظاهرين اليمينيين والمتطرّفين القوميين. وقارنت ما وصفته بـ«مسيرات الكراهية» الأسبوعية الداعية إلى وقف إطلاق النار في غزة، بالتجمّعات الطائفية التي تعقدها الأطراف المتعادية في إيرلندا الشمالية. وتسبّبت المقالة بغضب واسع، فيما بدأت الدعوات من مختلف ألوان الطيف السياسي إلى إعفاء الوزيرة من منصبها. لكنّ سوناك تمسّك بها بدايةً ومنحها ثقته، قبل أن يتعرّض لمزيد من الضغوط طوال يوم الأحد، بعدما استمرّت الوزيرة في انتقاداتها للمسيرات المؤيّدة للفلسطينيين، على الرغم من أن غالبية الاعتقالات وأعمال العنف التي شهدتها لندن كانت مرتبطة بتحرّكات استفزازية قام بها اليمين المتطرّف في جوار النصب التذكاري للحرب العالمية الأولى.وقالت شرطة العاصمة إن الاشتباكات بين منسوبيها ومجموعات من اليمين المتطرّف اتّسمت بـ«العنف الشديد»، عندما اخترق أنصار الناشط اليميني، تومي روبنسون، صفوف الشرطة، قبل لحظات فقط من الوقوف دقيقتَي صمت في إطار الاحتفال الرسمي السنوي بـ«ذكرى الهدنة» التي أنهت أربع سنوات من الحرب العالمية في عام 1918. ولمّح ناطق باسم الشرطة، إلى الدور السلبي للوزيرة المقالة في إذكاء الفتنة، وزيادة التوتّرات المجتمعيّة من خلال انتقاد ما سمّاه بـ«الجدل السياسي حول حفظ الأمن في الاحتجاجات». وتجمّع المشاغبون بالمئات بعدما وصفت الوزيرة المُقَالة، المتظاهرين المؤيّدين للفلسطينيين بأنهم «متظاهرو كراهية»، و«إسلاميون يعتزمون استخدام ذكرى يوم الهدنة للإساءة إلى بريطانيا»، واصطدموا بالشرطة في ثلاث نقاط في العاصمة على الأقل، واعتُقل منهم حوالى 150 شخصاً، فيما التزمت المسيرة الضخمة المؤيّدة لفلسطين بسلميّة التظاهر، وشارك فيها يهود بريطانيون، متديّنون وعلمانيون، إلى جانب مئات الآلاف من مختلف مكوّنات المجتمع البريطاني.
وشنّت قوى المعارضة، الأحد، هجوماً قاسياً على برافرمان؛ واتّهمها زعيم «حزب العمل»، السير كير ستارمر، بنثر «بذور الكراهية»، في حين كتب عمدة لندن، صادق خان، عبر موقع «إكس»، أن «مشاهد الفوضى التي شهدناها من قِبَل اليمين المتطرّف في النصب التذكاري، هي نتيجة مباشرة لكلمات وزيرة الداخلية وسلوكياتها. لقد جعلت من مهمّة الشرطة أكثر صعوبة». كما اعتبر الوزير الأول لإقليم أسكتلندا، حمزة يوسف، أن اليمين المتطرّف حصل على التشجيع من برافرمان، داعياً إيّاها إلى الاستقالة، وهي الدعوة نفسها التي وجّهتها الحركات والأحزاب اليسارية في البلاد. ولم يقتصر الهجوم على برافرمان على قوى المعارضة، إذ انضمّت إليه العديد من الشخصيات في «حزب المحافظين» الحاكم. وصرّح بعضهم إلى الصحف، بأن سلطة ريشي سوناك كرئيس للوزراء ستكون في حالة يرثى لها ما لم يُقِل وزيرة داخليته المثيرة للجدل، والتي تسبّبت بالانقسام في غضون أيام. وقال وزير سابق إن «عليها أن ترحل. وبغضّ النظر عمّا إذا كانت قد أثارت العنف أو لا، يجب أن تتحمّل المسؤولية عن الفشل». وقال آخر إن «عدم إقالتها سيكون قاتلاً لسوناك، لأنه في هذه المرحلة، بالإضافة إلى كونه رئيس وزراء لا يحظى بالشعبية، سيصبح رئيس وزراء ضعيفاً ولا يحظى بالشعبية في الوقت نفسه». واتّفق العديد من نواب المحافظين على أن تصرّفات الوزيرة المقالة سواء في ما يتعلّق بالتظاهرات أو غيرها، ضاعفت من تراجع التأييد لحزبهم في الشارع البريطاني، وخصوصاً في جنوب شرق البلاد، وأن مصلحة الحكومة والحزب تقتضي أن لا يستمرّ ذلك طويلاً. لكنّ البعض قال إن على سوناك التخلّص من وزيرته قبل أن تصدر «المحكمة العليا» حكمها، يوم الأربعاء المقبل، في شأن سياستها لترحيل اللاجئين إلى رواندا، «لأنه، في حال فازت الحكومة، فسيكون ذلك انتصاراً شخصيّاً للوزيرة، ويعزّز من موقفها. أمّا إذا خسرت، فسيُنظر إلى رئيس الوزراء على أنه أقالها بسبب حكم قضائي حول سياسة يدعمها».
يرى الخبراء أن بعث كاميرون وإعادته إلى قلب المشهد السياسي محاولة أخيرة يائسة من سوناك لتمتين وحدة الحزب الحاكم


وتأتي إقالة برافرمان، للمرّة الثانية خلال 13 شهراً فقط، إذ أُجبرت على الاستقالة من المنصب نفسه إبان عهد رئيسة الوزراء السابقة، ليز تراس، بعدما تبيّن أنّها استخدمت بريدها الإلكتروني الشخصي لإرسال معلومات سرّية تتعلّق بأعمال الحكومة. لكنّ إقالتها هذه المرّة أغضبت الجناح اليميني الأكثر تطرُّفاً في الحزب الحاكم، حيث يَعتبرها بعضهم زعيمة له. ووصف حلفاؤها الطريقة المذلّة التي صُرفت بها من الحكومة، بـ«التهريج». ومن المرجّح الآن أن تحاول التحضير لخلافة سوناك في قيادة «حزب المحافظين» في أيّ مناسبة تالية، علماً أن حلفاء رئيس الوزراء قالوا إنه قادر على تحمّل التداعيات جرّاء إقالتها، أكثر ممّا سيتحمّله من تداعيات في حال إبقائها في منصبها. وسلّم سوناك حقيبة الداخلية لجيمس كليفرلي الذي كان وزيراً للخارجية، فيما كان الحدث الأكثر دراماتيكية في التغيير الوزاري، استدعاء رئيس الوزراء الأسبق، ديفيد كاميرون، لتولّي حقيبة الخارجية (والكومنولث والتنمية). وكان كاميرون في ما يشبه حالة موت سياسي سريري منذ استقالته من منصب رئيس الوزراء بعد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وتمّ تعيينه للتوّ في مجلس اللوردات لإلحاقه بالحكومة، كونه ليس نائباً منتخَباً.
وكاميرون، رئيس الوزراء بين عامَي 2010 و2016، اشتهر بالدعوة إلى استفتاء «بريكست» الذي أدّى إلى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وكان في قلْب واحدة من أكبر قضايا الفساد في بريطانيا منذ عقود، بعدما كشفت صحيفة «فايننشال تايمز» أنه ضغط على زملائه السابقين في الحكومة لتمرير قرارات لمصلحة شركة خاصة له علاقة بها. وللمفارقة، فإن سوناك قال، قبل أسابيع قليلة، إن «كاميرون كان جزءاً رئيساً وراء حالة الفشل الراهن التي يعيشها الحزب». وفي هذا الإطار، يرى الخبراء أن بعث كاميرون وإعادته إلى قلب المشهد السياسي محاولة أخيرة يائسة من سوناك لتمتين وحدة الحزب في مواجهة التقدُّم الساحق لـ«حزب العمل»في استطلاعات الرأي، بأكثر من 20 نقطة مئوية. ويمثّل كاميرون تيار الوسط الأوسع في «المحافظين»، ولذا فقد يكون عاملاً مساعداً في تكريس قيادة سوناك للحزب خلال المرحلة الحالية الحرجة والمتّسمة بوفرة الشكوك والاتهامات المتبادلة.