غزة | قاسٍ وموحشٌ هو ليل غزة. ببطء شديد تمضي الساعات. يهرب الأهالي من أرق التفكير بالمصير، إلى النوم إذا ما استطاعوا إليه سبيلاً. المحظوظ فقط، هو مَن يستطيع التغافل عن دويّ الغارات، وأن يحرق بالغفوة قليلاً من الوقت.في هدوء الليل، تتضاعف أصوات القصف. يَسمع أهالي معسكر جباليا، الذين يبعدون عن شاطئ بحر شمال غزة نحو 13 كيلومتراً، أصوات الغارات المدفعية والأحزمة النارية، وكأنها في وسط مخيمهم. «مهما يكن النهار... فهو أكثر أنساً»، يقول الشاب عبد الغفار عمر، الذي التقيناه في داخل عيادة «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» في مخيم جباليا. ويتابع، في حديثه إلى «الأخبار»: «تجاربنا مع مجازر الليل مؤلمة. تهوي الأسقف على الأهالي ولا نستطيع إنقاذ أحد. ننتظر شروق الشمس كي ننقذ مَن يبقى حيّاً، النهار له عيون، نستطيع أن نعرف أين أمواتنا».
يتحوّل حي الشيخ رضوان، الذي غدا خطّ النار الأول المحاذي للدبابات الإسرائيلية المتمركزة قرب مفترق العيون، مع دخول وقت الغروب، إلى مدينة أشباح موحِشة؛ لا إنارة في الشوارع، لا مساجد تَرفع الأذان لتؤنس الأحياء، لا إضاءة في المنازل. هناك، حيث يعيش كاتب هذه السطور ليالٍ عدّة، وفيما لا فاصل زمانياً بين قذيفة الدبابة وغارات الطائرات الحربية، يضيء القصف العنيف عتمة المنازل. وهج الغارات مع دويّها، يُشعر كلّ مَن يحتمي بسقف بيته، بأن الغارة طاولته. يمنّي الأهالي أنفسهم بمعادلة أضحت متداولة: «كلّ ما تسمع صوته من قذائف وغارات، أنت في مأمن منه. الغارة التي ستلقَى بها حتفك، لن تسمع لها صوتاً».
ينجز الاحتلال تقدُّمه البرّي دائماً في ساعات الليل، حين يلقي أطناناً من القنابل


في حيّ الشيخ رضوان أيضاً، يستأنس الأهالي بضوء الشمس، ينتظرونه ساعة بساعة. يقول الحاج أبو أحمد، لـ«الأخبار»: «يبدأ ليل الشتاء الطويل مبكراً جداً، يضخّم هدوء الليل أصوات الغارات، نسمع لحظة انطلاق القذيفة من المدفعية، وصوتها في طريقها إلى الهدف، ودويّ انفجارها المرعب، نحصي المراحل الثلاث لكلّ قذيفة، ونحمد الله أنها ليست من نصيبنا». يتابع الحاج الستيني حديثه: «المضحك المبكي، أنّنا ننام باكراً، ثم نصاب بخيبة الأمل عندما نستيقظ على صوت غارة أو دويّ حزام ناري، وننظر إلى ساعة الهاتف، لنرى أنها لم تصل بعد إلى العاشرة ليلاً».
أمّا الشاب الثلاثيني يامن، فقرَّر أن يبدأ ليله بعد الساعة الـ12 من منتصف الليل. يقول، لـ«الأخبار»: «قرّرتُ أنا وأبناء عمومتي الذين يشاركونني مكان النزوح، أن ساعة النوم تبدأ بعد الـ12 ليلاً. قبل تلك الساعة، نمارس كلّ طقوس الجنون المتزامنة مع القصف العنيف: نصلّي، نعدّ العشاء سوية، نشرب الشاي مرّة ومرتَين، نشعل النار لنؤمن الخبز لأكثر من 50 نازحاً يشاركوننا السكن، وبعد أن تفشل كلّ تلك الفقرات في حرق ساعات الليل الطويلة، نبدأ في لعب الشدة والشطرنج، نلعب حتى يحين وقت النوم (...) وعندما يشتدّ القصف، نمازح بعضنا بأن نَعتبر أن أصوات الغارات العنيفة، هي أصوات أعمال المقاومة التي يقوم بها حبايبنا اللَزَمْ على خطوط القتال: مدام مِن جماعتنا صوت القصف، خلّينا ننام، هههه».
ينجز الاحتلال تقدُّمه البرّي دائماً في ساعات الليل، حين يلقي أطناناً من القنابل، ويشعل السماء بقذائف المدفعية والدخان، بينما تستغلّ المقاومة كل ثانية من ساعات النهار (لا مناظير ليلية في غزة). ساعات النهار القصيرة هي مساحة الزمن المتاحة للأهالي ليحصوا أعداد الآليات المدمّرة. وعندما يحين المساء يتغامزون راضين أو غير راضين عن حصيلة الآليات المدمّرة: «13 آلية فقط، يلا معوضة بكرا إن شاء الله»، يقول حمزة ممازحاً، ويتابع: «حسابنا معهم طويل، واللي بعيش بشوف شو رح يصير فيهم».