غزة | تعيد الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، إنتاج مشاهد من نكبة فلسطين عام 1948. واحدة من الحكايات التي أكثر كبار السنّ من الحديث عن قسوتها، تكرّرت خلال اليومَين الماضيَين: «سنة الثلجة» التي لم ينسَ مَن بقي حيّاً من المهجّرين تفاصيل مرارتها حتى وفاته، وظلّ يكرّرها على مسامع أحفاده، كلّما حضر شتاء غزير أو بردٌ قارس. تعود تلك الواقعة إلى عام 1951، أي بعد ثلاث سنوات من النكبة، حينما كانت مئات الآلاف من الأسر اللاجئة، تعيش في الخيام التي قدّمتها المؤسّسات الإغاثية الدولية، وكان الأهالي، حينذاك، حريصين على أن لا تتحوّل الخيمة إلى منزل، لإيمانهم الحتمي بأن سنوات التهجير محدودة، وبأن العودة إلى البلاد ستكون أسرع من الوقت التي يحتاجه قماش هذه الخيام ليبلى. تروي واحدة من الجدّات اللواتي عاصرنَ عام «الثلجة»: «في تلك السنة، أمطرت السماء بغزارة شديدة، وجرفت السيول خيامنا التي كنّا نقيمها في منطقة الجميزات (التي ستُعرف لاحقاً بمخيم الشاطئ)، وكلّما هدأ المطر يوماً، وأعدنا بناء الخيام، داهمنا المطر مجدّداً. تفشّت الأمراض والأوبئة، فسد الطعام ومواقد النار». تستذكر أم أحمد، التي تجاوزت السبعين خريفاً، الحكاية وهي تجلس على عتبة أحد البيوت القريبة من مركز الإيواء في مخيم جباليا، بعدما أخرجها ذووها من الخيمة التي نصبوها في ساحة «مدرسة جباليا الأيوبية»، حتى ينشّفوا الأغطية التي أغرقتها مياه الأمطار صباح الثلاثاء، ويحاولوا تحصينها بما تيسّر من النايلون. لم يَعُد المطر «بُشرة خير وبركة»؛ «آخر ما كنّا ننتظره هو الشتاء»، يقول الرجل الخمسيني، أبو محمود. ويتابع في حديثه إلى «الأخبار»: «نسكن أنا و20 من عائلتي في العراء، خرجنا من منازلنا بملابس الصيف وبلا أغطية، أغرقتنا السيول بفعل المطر الغزير، كنت أخاف من هذه اللحظة، ويبدو أن الأيام الصعبة لم تأتِ بعد».
نحو 700 ألف نازح في قطاع غزة التجأوا إلى المدارس والمستشفيات والمرافق العامّة، والمحظوظ منهم هو مَن وجد سقفاً إسمنتيّاً يؤويه. على أن مساحات المؤسّسات الملتجَأ إليها محدودة جدّاً، وهو ما يجبر الرجال على ترك الغرف المغلقة للنساء والأطفال، والجلوس في الباحات المكشوفة. لا أحد يخرق هذا النسق في مدارس الإيواء، حيث ثمّة التزام حديدي بالعرف المنضبط المحافظ. أم أسامة، سيدة في منتصف الأربعين من عمرها، نزحت من منزلها في منطقة السكة شرقي حيّ تل الزعتر شمال غزة، إلى عيادة «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» وسط مخيم جباليا. تقول، في حديثها إلى «الأخبار»: «القصف الكثيف أجبرنا على أن نفكّ الشبابيك الزجاجية، كي لا يتطاير الزجاج ويتسبّب بإصابتنا. البرد قارس جداً، جميع الأطفال يرتدون ملابس الصيف التي خرجوا بها من منازلنا تحت القصف، ولا أغطية. مرض أطفالي الأربعة نتيجة البرد ومياه المطر التي أغرقتنا».
يشير أحد المشرفين المحلّيين على مراكز الإيواء في منطقة مخيم جباليا، بدوره، إلى أن وكالة «الأونروا» أدارت ظهرها منذ اليوم العاشر، وأغلقت مخازنها التي تعرّضت لاحقاً للقصف الإسرائيلي، متسائلاً: «ماذا سيفعل الأهالي إذاً في مواجهة الشتاء»، ليجيب أبو خالد: «الكثير من الأهالي جازفوا بالعودة إلى منازلهم المخلاة على خطوط النار، وجلبوا ما استطاعوا من أغطية وملابس، والأكثر، يعلمون أن منازلهم قد دُمّرت ولا فائدة من مغامرة كتلك. لا حلّ متاحاً سوى إقامة المزيد من الخيام. هناك أزمة حادّة في الشوادر والنايلون، كما أن السيول التي تندفع من المناطق المرتفعة إلى المناطق المنخفضة، تجعل من الخيام حلّاً ترقيعياً غير مجدٍ».
على أن المطر وما يرافقه من برق ورعد، ليس هاجس سكان الخيام الأكثر رعباً؛ ففي ليل يوم الثلاثاء، شرعت المدفعية الإسرائيلية في قصف وسط مخيم جباليا بالمئات من القنابل المضيئة والحارقة، ما اضطرّ الأهالي لترك خيامهم، خشية أن تسقط على رؤوسهم أيّ منها.