على مدى ما يزيد على شهر، ترسّخ مشهد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أكثر فأكثر في أوساط الرأي العام المحلّي والعالمي، ليبدو أقرب إلى «مناورة حيّة»، تُختبَر فيها كلّ صنوف اختراق القوانين والمواثيق الدولية، كمّاً ونوعاً. فمِن حملات القصف العشوائي ضدّ المدنيين والمباني السكنية، والاستهداف المتعمّد للصحافيين وفرق الإسعاف والأطقم الطبية والإغاثية، إلى فرض أقسى تدابير التجويع والحصار، بما في ذلك منْع إدخال المواد الطبية والإغاثية وحتى الوقود إلى القطاع، يوغل الاحتلال في ارتكاب انتهاكات يجرّمها «القانون الدولي الإنساني»، ولا سيما مندرجاته المتعلّقة بحماية المدنيين، والعاملين في القطاع الصحي، وما يتعلّق منها باعتبار كلّ أشكال العقاب الجماعي، والحصار ضمناً، عملاً غير مشروع، خصوصاً أنه يخالف مبدأً أساسياً من القانون المذكور، وهو مبدأ «التمييز» بين المدنيين والمقاتلين.
العدوان على «الشفاء» في ميزان «القانون الدولي الإنساني»
يفتح مشهد الاقتحام البربري لـ»مجمّع الشفاء الطبي»، حيث يوجد أكثر من ألف من أعضاء الطاقم الطبي ونحو 700 مريض، من بينهم 39 من الأطفال الخُدّج، إضافة إلى 7 آلاف نازح، والمصنّف ضمن المنشآت المدنية المحميّة وفقاً لـ»القانون الدولي الإنساني»، وتحديداً «اتفاقية جنيف الرابعة» (1949)، والبروتوكولَين الأول والثاني لاتفاقيات جنيف (1977)، و»اتفاقية لاهاي» (1954)، الباب أمام فصل جديد غير مسبوق من العدوانية الصهيونية في تاريخ الحروب والصراعات. فقد خصّصت «اتفاقية جنيف الرابعة»، حمايةً خاصة للمستشفيات، إذ تنصّ في مادتها الـ18، على أنه «لا يجوز بأيّ حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظّمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء، ويجب احترامها وحمايتها في جميع الأوقات»، كما تشدّد، في مادتها الـ19، على «عدم جواز وقف الحماية الواجبة للمستشفيات المدنية»، في حين تلزم الاتفاقية الرابعة، تماماً كما تنصّ الاتفاقيات الأولى والثانية والثالثة منها، جميع الأطراف بوجوب «جمع الجرحى والمرضى والعناية بهم». وفي الاتّجاه نفسه، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، عام 1970، قراراً حمل الرقم (2675)، ينصّ على أنه «لا يُسمح أبداً بالهجمات العشوائية أو المستهدفة على المستشفيات والوحدات الطبية والعاملين الطبيين الذين يعملون بصفة إنسانية»، أسوةً بقوانين وأعراف الحرب المنصوص عليها، بموجب النظام الأساسي لـ»المحكمة الجنائية الدولية»، المعروف أيضاً بـ»نظام روما الأساسي».
في محاولة لتقييم «واقعة الاقتحام» في «ميزان» ما يُعرف بـ»القانون الدولي الإنساني»، يرى خبراء قانونيون أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، استسلمت لروح الانتقام التي تخرج عن القواعد الأساسية للقانون المذكور، والمعروف بـ»قوانين الحرب»، وبصورة خاصّة لناحية مواصلة الهجمات على المرافق الصحية والعاملين في المجال الصحي في قطاع غزة. ويورد تقرير صادر عن «منظمة العفو الدولية»، حول الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، اتهامات «موثّقة» تثبت قيام الجيش الإسرائيلي بشنّ «هجمات عشوائية» ضدّ المدنيين الفلسطينيين، جازماً بأنّ إسرائيل لم تتّخذ الاحتياطات الممكنة لتجنّب قتلهم، ولم تميّز الأهداف العسكرية عن تلك المدنية، ما أدّى إلى خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، وإبادة عائلات بأكملها. ويَعتبر التقرير، بالاستناد إلى تحليل صور الأقمار الاصطناعية، أن إسرائيل استهزأت بشكل صادم بأرواح المدنيين، ودمّرت البنية التحتية في القطاع، مؤكداً أنه لم يتمّ العثور على أدلّة تفنّد ادّعاءات الجيش الإسرائيلي بأنه «يهاجم أهدافاً عسكرية» فقط. وكشكل من أشكال الدعوة إلى تفعيل دور مجلس الأمن الدولي في هذا المجال، يلفت ناشطون حقوقيون إلى الحاجة إلى بذل المزيد من الجهد لردع الهجمات على المستشفيات، معتبرين أن المجلس مطالب بالردّ الفوري على كل هجوم يتعرّض له أحد المرافق الصحية حول العالم، بما في ذلك المطالبة بتحقيقات ومساءلة «ذات صدقية».
يفتح مشهد الاقتحام البربري لـ«مجمّع الشفاء الطبي» الباب أمام فصل جديد غير مسبوق من العدوانية الصهيونية في تاريخ الحروب والصراعات


اقتحام «الشفاء»: عمّ يبحث الاحتلال؟
وبالحديث عن انتهاكات إسرائيل لكلّ ما سبق، وبعد أيام من الحصار والقصف، وما أعقب ذلك من انقطاع الكهرباء، ونقص في الوقود تسبّب بمقتل العديد من المرضى، فضلاً عن قنص كل مَن يحاول الخروج من مجمع «الشفاء»، اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي، فجر أمس، المستشفى بعدما حاصرته لأيام بالدبابات والمدرّعات، بذريعة وجود مقرّ لحركة «حماس» داخله، وهو ما نفته الأخيرة مراراً، مطالبةً بتشكيل لجنة أممية لإثبات زيف تلك المزاعم.
ومع بدء الهجوم، أعلن الجيش الإسرائيلي، في بيان، أن اقتحام المستشفى جاء بذريعة القيام بـ»مهمّة»، مدّعياً أنّه «ربّما يصل إلى مكان يهزم فيه حماس ويطلق سراح الرهائن». وذهب البيان إلى حدّ الزعم بأنّ العملية العسكرية الدائرة في «الشفاء»، تضمّ فرقاً طبية تابعة للجيش الإسرائيلي «بهدف عدم إلحاق أيّ ضرر بالمدنيين»، فضلاً عن ما قال إنها جهود سبقت العملية لإخلاء المرفق من المرضى والنازحين، شملت فتح ممرّ لهذا الغرض، وإبلاغ إدارة المستشفى بتوقيف الدخول إلى المجمع. وقال الناطق باسم جيش الاحتلال، لشبكة «سي إن إن» الأميركية، إنّ قواته تواصل عملياتها في «الشفاء»، وإنها محصورة في جزء معين من الصرح الطبي، وإن نشاطه فيه يستند إلى «معلومات استخبارية وحاجة عملياتية». كما أقرّ بأنه «لا معلومات عن وجود الرهائن في مستشفى الشفاء وعملية التمشيط متواصلة»، نافياً وقوع إصابات في صفوف الجيش خلال عملية اقتحام المستشفى، على رغم ما رُوّج من ادّعاءات بالعثور على «عبوات ناسفة وخلايا، فضلاً عن اشتباكات قُتل خلالها عدد من المسلحين». وفي السياق ذاته، كشفت إذاعة جيش الاحتلال أنه «لا مؤشرات» إلى وجود محتجزين إسرائيليين في المجمّع، خلافاً لما أشاعه الأخير عن وجود معلومات استخبارية في هذا الشأن. ونقلت عن مصدر في الجيش قوله إنّه «تمّ العثور على أسلحة في العديد من البنى التحتية»، وزعْمه أن المرضى والطواقم الطبية «موجودون داخل مبنى منفصل عن المبنى الذي يوجد فيه الجيش». وبالنظر إلى أنّ الهجوم يأتي في سياق مزاعم مشابهة سبق أن روّج لها الإسرائيليون، في الأسبوع الماضي، لاستهداف مستشفى «الرنتيسي»، من جملتها استخدام الطابق السفلي منه لغايات «إخفاء أسلحة»، و»احتجاز رهائن»، وفق توصيف جيش الاحتلال، إضافةً إلى كونه يتّسق مع حملة ممنهجة لضرب المستشفيات في قطاع غزة، بعد مجزرة قصف مستشفى «المعمداني» الشهر الماضي، حملت تصريحات منسوبة إلى مسؤول أمني إسرائيلي، عبر وسائل إعلام العدو، قال فيها إن «العملية الإسرائيلية في مستشفى الشفاء سيتمّ توسيعها إذا لزم الأمر»، إشارات إلى إمكانية ضرب مستشفيات أخرى في القطاع بعد السيطرة عليه، في ظلّ تعرّض عدد منها، كـ»الإندونيسي» و»القدس» لقصف متواصل. وقال المسؤول لإذاعة الجيش الإسرائيلي: «لقد بدأنا العملية بصورة محدودة، وسوف تتوسّع حسب الضرورة»، زاعماً أنّ «القرار كان بأن لا ندخل الشفاء إلا إذا عرفنا بالضبط ما هو هناك وأين هو، كما فعلنا في مستشفى الرنتيسي، الذي تمّت مداهمته فقط عندما عرفنا بالضبط ما كان موجوداً في قبوه».
وتوقّف مراقبون عند سرعة إعلان قوات الاحتلال اقتحام «مجمّع الشفاء الطبي»، بعد ساعات قليلة فقط من إعلان وزارة الدفاع الأميركية عن «تقييم استخباراتي رُفعت عنه السرية» مستنسخ عن «الرواية الإسرائيلية» المزعومة عن المبنى، والتي تروّج بأنّ حركتَي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» تعمدان إلى «استخدام المستشفيات، بما فيها «الشفاء»، لإخفاء معدّات عسكرية واحتجاز رهائن»، وأنّ الفصيلَين «يديران منظومة قيادة وسيطرة من داخل المكان».

تنديد دولي بالممارسات الإسرائيلية في «الشفاء»
وعلى وقْع تصاعُد مظاهر التنديد الرسمي والشعبي حول العالم، والتي تجلّى أبرزها في تظاهرة نظّمها ناشطون مناهضون للحرب أمام البيت الأبيض، استنكر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، سلوك القوات الإسرائيلية في مستشفيات غزة، مشدّداً على ضرورة أن تكون لحماية الأطفال الحديثي الولادة والمرضى والطواقم الطبية وجميع المدنيين الأولوية على كلّ الاهتمامات الأخرى. وتابع المسؤول الأممي، عبر حسابه في منصة «إكس»: «ينتابني الذعر حيال أنباء الاقتحام العسكري لمستشفى الشفاء، المستشفيات ليست ساحة حرب». وفي معرض التنديد بالأعمال القتالية في «الشفاء»، شكّك «المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان» في ما سمّاها «مزاعم استخدام المستشفى لأغراض عسكرية»، معتبراً أن الأمر «لا يحتاج إلى كلّ هذا الوقت للتمشيط والمداهمة». وأعرب المرصد، الذي يتّخذ من جنيف مقراً له، عن خشيته من أنّ «طول الفترة التي يستغرقها الجيش (الإسرائيلي) داخل المجمع يثير مخاوف من إعداد مسرح لمشهد مصطنع»، مشيراً إلى أنّ «إسرائيل تحوّل مباني المجمع إلى مركز للاعتقال والتنكيل». وفي ظلّ أنباء عن احتجاز قوات الاحتلال لعدد من المرضى والنازحين، واقتيادهم إلى جهة غير معلومة، رأى المرصد أنّ عدم سماح القوات الإسرائيلية لأطراف دولية محايدة بالتواجد داخل المجمع يثير الشكوك حول أيّ رواية ستصدر لاحقاً.
المخاوف نفسها، عكسها بيان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، والذي وصف الخطوة الإسرائيلية بأنها «جريمة حرب»، محمّلاً سلطات الاحتلال والولايات المتحدة والمجتمع الدولي كامل المسؤولية عن سلامة آلاف الطواقم الطبية والجرحى والنازحين المتواجدين في المكان. وأبدى تخوّفه من أن يلجأ الاحتلال إلى «إدخال أسلحة إلى المستشفى ويقوم بترتيبها بشكل معيّن ثم تصويرها» بقصد استعمالها في تبرير جرائمه. وفي تعليقها على مجريات التصعيد في غزة، ترى مجلة «لوبس» الفرنسية أن الدعم غير المشروط لإسرائيل وغياب إدانة جرائم الحرب التي ترتكبها، يتناقضان مع التمسّك الغربي باحترام القانون الدولي، وعالمية حقوق الإنسان، ولا سيما أنّ احترام تلك المعايير «شكّل أساس موقف الولايات المتحدة والأوروبيين في إدانتهم القاطعة للجرائم الروسية ضدّ أوكرانيا». وتختم المجلة بالقول إنّ الغرب يطبّق معايير مزدوجة على الدول والبشر بإعفاء الغربيين أنفسهم من القانون الدولي، وكأنّ «حياة البشر ليست متساوية».