منذ الأيام الأولى للحرب، صدّر إعلام العدو، المكتوب والمرئي والمسموع، الخاضع ليس للرقابة العسكرية فقط، وإنما أيضاً للتوجيه بضخ البروباغندا التي تخدم الرواية الإسرائيلية القائمة على الأكاذيب، أكبر مجمعّات غزة الصحية - مستشفى الشفاء - بصفته مقرّاً مركزياً لـ«قيادة القسّام»، محوّلاً المركز الصحي الذي بات ملاذاً للنازحين ويعجّ بالشهداء والمرضى والجرحى الفاقدين لأدنى مقومات الرعاية الصحية، إلى رمزٍ أُريد منه تحقيق صورة نصر تعجز إسرائيل عن الظفر بها منذ فشلها المهول في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. ولخدمة تصدير «الشفاء» بوصفه مقرّاً للذراع العسكرية للحركة، انبرت آلة الدعاية في تداول فيديو صادر عن القوّات الإسرائيلية، مكوّنٍ من رسومات تمثيلية تصوّر ما تحت المستشفى على أنّه «بنى تحتية من الأنفاق والغرف المنفصلة التي تدير القسّام منها العمليات»، معتمدةً على سلسلة من مقاطع صوّرت في أقبية «الشاباك» أثناء تحقيقات أجراها ضباط الأخير مع «مقاتلي حماس» الذين اعتقلوا في الهجوم على مستوطنات «غلاف غزة»، وفيها يظهر المعتقلون في حالة يُرثى لها، و«يعترفون» (بعد ممارسة أساليب تعذيب لا تخطر على بال الشياطين) بأن «حماس تستخدم المستشفيات كمقرّات للعمليات العسكرية» و«الإسعافات من أجل التنقّل في الحرب». ورداً على سؤال المحقّق «الذكي والفِتِح» لأكثر من مُعتقل: «لماذا تستخدم «حماس» المستشفيات وسيارات الإسعاف؟»، يردّ المعتقلون (صُوّر كلٌّ منهم على انفراد): «لأنكم (أي سلاح الجو الإسرائيلي) لا تقصفون سيارات الإسعاف والمستشفيات»، في حين أنّ أحداً لم ينسَ ليس أيام هذه الحرب فقط، بل تاريخ إسرائيل الحافل ونهجها الوحشي في استهداف الإسعافات والمستشفيات ومقرّات الأمم المتحدة في لبنان وفلسطين، سواء أفي الضفة أم في غزة، واعتداءها، لا بل قتلها للصحافيين والمسعفين والأطباء، وصولاً إلى قصف «مستشفى المعمداني»، في الجريمة التي بُثّت على المباشر بالصوت والصورة أمام العالم الغربي «المتحضر».
(محمد سباعنة ـ فلسطين)

إلى جانب مقاطع الفيديوات المُصوّرة، بثّت وسائل الإعلام العبرية كافةً تسجيلاً صوتياً بين رجلٍ وامرأة يتحدّثان بالعربية قالت إنهما من غزة، ولم تحدّد من هما (وربما يكونان ضابط وضابطة شاباك). في التسجيل الصوتي، يسأل الرجل المرأة بالعامية: «وين مراكز القيادة تعول القسّام؟» وتردّ المرأة «بعرفش». ثم يتابع: «تحت مستشفى الشفاء الطبي»، فتصرخ «يا لطيف عنجد بتحكي؟» فيتابع الرجل «آه تحت مجمع الشفاء منامات وغرف وقيادة وكل شي». ثم استشهد بمقطع فيديو ظهر فيه قائد الحركة، يحيى السنوار، عام 2021 في مؤتمر صحافي، قال فيه إن «الحركة عملت على نقل مراكزها القريبة من السكان... وهي عملية نقل تدريجية نجحنا بجزء كبير جداً فيها، وتبقّى هُناك جزء صغير جداً نعمل على نقله». فإذا كانت الحركة قد نقلت جزءاً كبيراً من مراكزها الواقعة بالقرب من السكان منذ عام 2021، فهي في العامين كانت تجلس مكتوفة الأيدي، في نظر إسرائيل. علماً أنّ تصريح السنوار لا يحمل أي إشارة لا ضمنيّة ولا مباشرة في خصوص «الشفاء». وإذا كان أصغر طفلٍ في غزة ولبنان يعرف أنّ لا خطوط حمر لإسرائيل التي تنتمي فقط إلى غابة القانون الوحيد فيها وهو الأمن القائم على صيغ الروايات الباطلة والتزييف والتضليل لتبرير قصف المستشفيات والمراكز الإنسانية كافة، فقد غاب ذلك صراحة عن قادة «القسام» الذين حتى الآن لا تقرأهم إسرائيل واستخباراتها بصورة صحيحة، رغم أنهم تمكّنوا من اختراق جدارها وسياجها الإلكتروني ومنظوماتها التكنولوجية الفائقة الذكاء وسحق خطوطها الأمامية الدفاعية، وهزم مقرّ قيادة فرقة غزة في نحو ساعة وقتل وأسر من فيه... لأنها ببساطة لم تقرأهم بالصورة الصحيحة، فيما بالغت في تقدير ذاتها. وهي إلى الآن تبالغ في تقدير ذاتها، في مقابل التقليل من شأن قادة «حماس» وقراءتهم بصورة خطأ ومنفصلة عن الواقع. اقتحام المستشفى ترافق مع ضخ إعلامي مهول في اليومين الماضيين، والترويج بأن «الاستخبارات الإسرائيلية حصلت على معلومات مؤكدة مفادها بأنّ قادة «حماس» لا يوجدون تحت المستشفى فقط، بل أيضاً معهم أسرى إسرائيليون محتجزون هُناك وأن الجيش ذاهب في عملية وطنية لتحريرهم». ونقلت وسائل الإعلام العبرية مقاطع فيديو تظهر محاصرة جنود الاحتلال وآلياته العسكرية الثقيلة المستشفى، ومن فيه من مرضى ونازحين وأطباء. وقبيل الاقتحام، نقلت صور الخدج الباكين في حضانتهم التي تفتقر لأدنى شروط إبقائهم على قيد الحياة، مدّعية بأنّ قوّاتها عرضت نقلهم والاهتمام بصحتهم، فيما المتحدثون من قبل المستشفى لم يمانعوا أساساً نقلهم إلى أي مستشفى بهدف إبقائهم أحياء في ظل انعدام الوقود المُشغّل لماكينات الأوكسيجين، والأدوية، التي يحتاجون إليها بالدرجة الأولى. مع بدء الاقتحام، بثّت مقاطع مصورة، في محاولة «لأنسنة» جنود الاحتلال الذين قتلوا وجرحوا آلاف الأطفال منذ 40 يوماً، وبسببهم قُتل ثلاثة خُدّج لا ذنب لهم إلا أنّ أمهاتهم ولدتهم باكراً بسبب الخوف الذي تعرضن له تحت القصف وأصوات الصواريخ والانفجارات. وفي سبيل أنسنة جنودها، صوّرتهم كـ«عاملي دليفيري» أو «ناشطين في إحدى المنظمات الإنسانية»، وهم ينقلون كراتين وعلباً مغلقة لم يعلم أحد ما فيها، فيما قالت إنها «مساعدات إنسانية»، بينما خرج عشرات الشهود من المستشفى من نازحين وأطباء ومرضى قالوا إن المستشفى من دون وقود، ولا كهرباء، ولا ماء ولا طعام، وأن القوّات الإسرائيلية اعتقلت مهندسين تقنيين اثنين، هما الوحيدان اللذان اعتمد عليهما المستشفى في إصلاح ما خرّبته آلة الحرب والتدمير الإسرائيلية.
أمّا الصدمة التي تعرضت لها وسائل الإعلام العبرية، فتتلخص في مثلٍ عبري قديم مفاده: «لو دوبيم فلو ياعار» (لا دببٌ ولا غابة). بعدما لم تجد قوات الاحتلال لا أسرى ولا أنفاقاً ولا حتى مقاتلاً واحداً من «القسام»، حان دور المسرحية، وجاء أوان فتح الكراتين (التي جلبوها كمساعدات إنسانية)، إذ تقدم «البطل المغوار» المتحدث باسم «الجيش» الإسرائيلي للإعلام الأجنبي، ليعرض مجموعة من الأسلحة (ربما أحضرها الجنود معهم بعد وصولهم إلى بعض مقرات «حماس» أثناء العمليات البرية، أو هي أسلحة يستخدمها أمن المستشفى مثل نظرائهم في أي مستشفى في العالم، حتى في المستشفيات الإسرائيلية نفسها)، وبدأ يستعرض مجموعة من أجهزة الاتصال اللاسلكي (يا للهول!)، وكاميرات مراقبة (هل هناك مستشفى في العالم لا يحتوي على كاميرات مراقبة؟)، ثم جهاز حاسوب متنقل! (يا للخطورة) ومجموعة من الأقراص المدمجة، وأين؟ في غرفة التصوير بالرنين المغناطيسي، أي إنه حتى الذي لا يعرف شيئاً عن الطب، يعرف بالحد الأدنى أن صور الأشعة والرنين المغناطيسي تُعطى للمرضى على أقراص مدمجة. أمّا الطامة الكبرى، فهي ما وجده المتحدث باسم «الجيش» خلف آلة التصوير بالرنين المغناطيسي: حقيبة فيها أسلحة! (بجانب كرتونة تحمل الرموز نفسها للكراتين التي جلبها معه) يعني أنّ مقاتلي القسام لم يجدوا مكاناً آخر يخبئون فيه حقيبة أسلحة إلّا رميها هكذا على الأرض وراء الآلة! حمداً للرب أنّ «الجيش» الإسرائيلي لم يقل إنّ فتحة آلة التصوير هي ثقب أسود ينفذ منه مقاتلو القسام إلى أنفاقهم.
مع بدء الاقتحام، بثت مقاطع مصورة في محاولة «لأنسنة» جنود الاحتلال الذين قتلوا آلاف الأطفال منذ 40 يوماً


اقتحام المستشفى والعودة بـ«خفي حُنين» خيّب أمل الإسرائيليين ونخبة المحلّلين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين، حتى أولئك المقربين جداً من منظومتي «الجيش» والاستخبارات. في هذا الإطار، كتب محلل الشؤون الأمنية، يوسي ميلمان، على صفحته على منصة إكس: «ينتابني شعور سيء حيال مستشفى «الشفاء». إسرائيل قامت بترويج غير مسبوق، منتجةً انطباعاً بأن «الشفاء» هو قلب المافيا. المختطفون ليسوا هناك ولا «الإرهابيون» أيضاً. والآن المتحدث باسم الجيش يعلن أنهم دخلوا إلى «الشفاء» لأنها رمز حمساوي، وعثروا هناك على أسلحة وخرائط ومقر. لا يترك هذا انطباعاً جيداً. هل للاقتحام قيمه وفعل ذلك رغم التوقعات والضرر الدعائي الدولي؟». أمّا محلل الشؤون الأمنية في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، رونين بريغمان، فكتب :«كان واضحاً (كما صوّرت المعلومات الاستخبارية) أنّ «حماس» ستحاول تفخيخ المستشفى، بالطول وبالعرض، وربما تفجير مبنى شامل في المجمع الطبي على ما فيه من مرضى وطواقم طبية وجنود إسرائيليين. ربما سيفجرون كل المجمع الضخم الذي يثق الجيش والشاباك أنه موجود تحت الأرض. وعندها سينهار المجمع كله إلى داخل الحفرة الهائلة تحته...قرار اقتحام المستشفى اتخذ بعد الحصول على معلومات استخباراتية دراماتيكية دفعت باتجاه الاقتحام رغم المخاوف». وهو ما يقلل من شأن هذا التقدير الاستخباري في الحد الأدنى. أمّا الكاتب الإسرائيلي سيوما بوبرمان، فكتب على إكس: «عرض الجيش في الشهر الماضي مقطع فيديو فيه رسم توضيحي يُظهر منظومة الأنفاق الكبيرة تحت مستشفى الشفاء. اليوم لم يعرض أي شيء يقرّب مجرّد التقريب إثبات ذلك. لا أنفاق. لا مقرات قيادة. لا مختطفون». ولفت إلى أن «عدد الأسلحة (التي استعرضها المتحدث باسم «الجيش») تطرح سؤال الثمن مقابل الفائدة. هل كان كل هذا (الضخ الإعلامي والزعم والترويج) يستحق ما حدث؟ هكذا يرى العالم الأمور». أمّا ملخّص هذه «المهزلة»، فاختصره المراسل العسكري لموقع «ماكو»، شاي ليفي، بوصف ما عرضه «الجيش» الإسرائيلي مقارنة بما ادعاه - بناء على معلومات استخبارية - بأنه «مثير للإحباط».