غزة | على مدار أكثر من ثلاثين يوماً من دوامه المتواصل في المستشفى «الإندونيسي» شمال غزة، لم يستطع أحد فكّ الشيفرة التي يستطيع عبرها ممرّض بعينه، تحويل أكثر المواقف قسوة، إلى كرنفال مثير لأجواء هستيرية من الضحك. شابّ في منتصف الثلاثين، قصير القامة، يمتلك قدراً من الذكاء الاجتماعي وحسّ الدعابة، جعل منه الحكيم الأحبّ إلى قلوب المرضى والمصابين. اسمه محمود جميل مطر، يمكنك أن تراه طوال الوقت وهو يقفز مثل أرنب رشيق من جريح إلى آخر، وستستدلّ على وجوده في إحدى الغرف حتماً، من تصاعد أصوات الضحك المخلوط بصراخ الألم. لا ينادي المسنّين من الرجال، إلّا بـ«أبو الشباب»، قائلاً: «مدّ إيديك يا عريس حتى أعطيك الدوا». في الدقائق التي يقوم فيها بمهمّته، يخوض في حديث تعارف سريع مع مريضه، لا يتطرّق عبره إلى الجانب المؤلم مطلقاً. مثلاً، فقد الحاج الستّيني، أبو صبري، 15 من أبنائه وبناته وأحفاده، إلى جانب زوجته. يسأله الحكيم الشهير بـ«أبو النور»: «شو في مشروع زواج بعد ما تقوم بخير؟ طيب بذمتك كنت تحبها لإم صبري ولا قلت لما استشهدت أجت منك يا جامع؟». ولحاجّة تبلغ السبعين من عمرها، يقول: «يلا يا حلوة مدّي إيديك»، قبل أن يغوص معها في حديث أكثر انضباطاً، لا يُسمع منه إلّا قولها: «والله وردة يمّا وردة ما شاء الله عنك». أمّا مع المصابين الشباب، فيكتسب حديثه دعابة أكبر. إذ إنه من المنطق، مثلاً، أن يبكي الشاب العشريني أبو أكرم طويلاً لأنه فقد ساقه اليمنى، لكن «أبو النور» يجيد تسخيف المشهد القاسي بقوله: «مد رجلك وإنتا ساكت، ما بدها دلع، أخذت مسكنات عن كل عشر مرضى وإحنا بنراضي فيك، الآن الغيار ع الناشف، فش مسكنات، بدنا نطلع نجري من هان، ما بدنا ندمن على الترامادول... نجري؟ لا كيف تجري، قصدي تحجل زي الكنغر!». بهذه البساطة يجعل الرجل يضحك، وينسى جرحه وقدمه الفقيدة، وأنه أمام جولة من ألم تنظيف الجرح الملتهب من دون أيّ مسكنات.
«أبو النور» كان الناجي الوحيد من مجزرة طاولت منزلاً لعائلة السواركة


ليل الإثنين - الثلاثاء، عاد «أبو النور» إلى المستشفى، كناجٍ وحيد من مجزرة طاولت منزلاً لعائلة السواركة، كان يقضي فيه ليلته عند أحد أصدقائه. قضى الجميع: ثلاثة أطفال وشابّان، فيما انتُشل هو وحيداً من تحت الركام. في ساعات النهار، تحوّل القسم الذي نُقل إليه في الطابق الثالث من المستشفى إلى مزارٍ للعشرات من نزلاء المستشفى من الجرحى. وفيما كان يعلو صوت صراخه بسبب إصابته البليغة، إذ إن كلتا ساقيه تعرّضتا لكسور وتهتّك شديد الخطورة، وكامل جسده أصيب برضوض وجروح، أخذ المسكن القوي في جسمه مأخذاً جعله قادراً على استعادة اتّزانه، ليبدأ الهزال مجدّداً. تحدّث «أبو النور» بخفّة ظلّه المعتادة: «شوفوا يا جماعة، صاروخين من طائرة إف 16 ما أثرن فيا، مجرد خدوش». يضحك الشاب، ويضجّ الطابق الثالث كلّه بسعادة غير مفهومة، ثمّ تبدأ مبارزات الشماتة الكاذبة: «يلا ذوق يا غالي، كنت تحط إلنا محلول ملحي وتقول إنو مسكن، أول ما دخلت صرت تصرخ هاتولي مورفين، هاتلوا ترامادول... وجع يا رب مش قادر»، قال رفيقه في الغرفة أبو سالم، ليردّ عليه الحكيم الجريح بالقول: «ولك استحي ع دمك، راحت رجلك بقذيفة دبابة، بس قذيفة، أنا طلعوا عشاني طائرة إف 16».
ساعة وبضع الساعة ووفود الزائرين من المصابين لم تتوقّف، والضحك كذلك، قبل أن يعاود الألم الرهيب كرّته. بكى الحكيم البشوش من شدّة وجعه، وصرخ بأعلى صوته. «إصابته بليغة جدّاً»، قال زميله الحكيم المناوب، ثمّ أضاف: «المشكلة أنه لا تتوفّر جسور البلاتين اللازمة لتثبيت ساقيه المهشّمتَين، الوقت ليس في مصلحته، الفارق بيننا وبين البتر ساعات عدّة أو أيام في أحسن الظروف». أمام غرفة العمليات، احتشد العشرات من زملائه الممرّضين ومحبّيه المصابين للضغط على الأطباء من أجل إعطائه الأولوية. لكن الطبيب المناوب خرج وفي ملامحه عجز الدنيا كلّها: «نخوض معارك لإنقاذ حياة العشرات من المصابين، الأولوية لهم، أمّا زملينا، فسيكون عليه أن ينتظر، إلى أن تأذن المجازر بفرصة لإجراء عمليته».