دائماً ما كان هناك معارضون يهود للصهيونية، يعتبرون أنّها تخالف مبادئ ديانتهم وتشوّهها وترتكب جرائم باسمها. كتاب الناشطة الأميركية اليهودية الشهيرة شاتزي ويزبرغر (1930 ــ 2022) عن مجزرة صبرا وشاتيلا غيّر موقفها تجاه الصهيونية في آخر عمرها، وحظي بانتشار واسع. ورغم تنظيم هذه الشريحة أنشطة واحتجاجات دورية منذ ما قبل «طوفان» السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، ولا سيّما في الغرب، إلّا أنّ الحرب على غزّة وما رافقها من دور أساسي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي في معركة الوعي، سلّطا الضوء أكثر على هؤلاء، فظهروا يجاهرون بدعمهم لفلسطين في تظاهرات في بلدان مختلفة وعلى السوشال ميديا.
أميركيون يهود يتظاهرون أمام تمثال الحرية في نيويورك في السادس من تشرين الثاني (نوفمبر)

في هذا السياق، اشتهر عدد من اليهود على هذه المواقع لتفنيدهم الأكاذيب الصهيونية، وغالبيّتهم من الأميركيّين ممّن يفضحون أساليب غسل الأدمغة المعتمدة في بلادهم منذ وجودهم في المدرسة، وصولاً إلى «حقّ الجنسية» الإسرائيلية لأيّ يهودي في العالم متى وطَأت قدماه أراضي فلسطين المحتلّة، وما يسمّى بالـ Birth Right. هذا الاتجاه بات سائداً بين عدد كبير من اليهود في العالم، وخصوصاً في الولايات المتّحدة حيث بدأ كثيرون من مختلف الديانات للتوّ باكتشاف الحقيقة والإفلات من البروباغندا الصهيونية التي تشرّبوها طوال حياتهم. في هذا السياق، تبنّى يهود أميركيّون شعار Not in Our Name (ليس باسمنا) لرفضهم ارتكاب كيان الاحتلال المجازر باسم ديانتهم. وهناك مقاطع فيديو كثيرة تنتشر ليهوديّات أميركيّات أعلنّ الطلاق مع الصهيونية، ولبعضهنّ صفحات على تيك توك أيضاً، نذكر منهنّ «أندروميرو» (andromeroo@) التي وُلدت في الأراضي المحتلّة قبل هجرتها إلى أميركا في سنّ صغيرة وتحوّلها إلى دعم فلسطين.
تبنّى يهود أميركيّون شعار Not in Our Name (ليس باسمنا)


غير أنّ الأكثر تأثيراً وانتشاراً بين هؤلاء في المدة الأخيرة هنّ ثلاث شابّات أميركيّات يظهرن ثقافة واسعة لناحية معرفتهن بديانتهن وبالشأن الفلسطيني والصهيونية. وهنّ بطبيعة الحال بتن أهدافاً للتهديدات الصهيونية التي لا توفّر أحداً ممّن يفضح جرائمها، لكنّهن يتّسمن بالشجاعة ولا يتردّدن في فضح ما يتعرّضن له. ثلاث شابات استحلن مصدراً لأرق الصهاينة!

كيتي: محرقة أخرى


إنّها الأكثر شهرة بين الثلاث، وخصوصاً على تيك توك ، إذ لديها قرابة مليونَي متابع. هي «كيتي اليهودية الأميركية»، كما تعرّف عن نفسها. تتعمّد التذكير باستمرار بأنّها حفيدة أحد الناجين من المحرقة، لتلفت أوّلاً انتباه اليهود كافّة، ولتؤكّد ثانياً لداعمي فلسطين أنّ الأمر لا يتعلّق بديانة معيّنة بل بالأخلاق الإنسانية. تخبر الثلاثينية متابعيها بأنّها قضت معظم حياتها تدرّس اختصاصات في الجامعة مرتبطة بالقضية الفلسطينية، كما تخبرهم عن عادات وتقاليد عائلتها ذات الخلفية الصهيونية. تشرح أموراً كثيرة في مقاطع مطوّلة، مثل الفرق بين اليهود الأشكناز والسفارديم والمزراحيم، وكيف أنّ الفلسطينيّين هم في الحقيقة أحفاد من يدّعي الصهاينة أنّهم أجدادهم لتبرير ارتكاب المجازر، والتمييز الذي يطبع معاملة كيان الاحتلال لها كونها يهودية حتّى لو ولدت في مكان بعيد آلاف الكيلومترات في مقابل معاملته السيئة للفلسطينيّين أصحاب الأرض. تفضح الكثير من الأكاذيب الإسرائيلية، من ادّعاء أنّها «آمنة» و«واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط» إلى كذبة «الدروع البشرية» ووسم المقاومة بـ«الإرهاب» و«معاداة السامية»، وصولاً إلى متلازمة ادّعاء المظلوميّة والكذب بشأن استهداف المستشفيات والمدارس في غزّة. لا توفّر كيتي كلمة واحدة يطلقها الصهاينة من نقدها اللاذع.
تسلّط الضوء على الاضطهاد الذي يعانيه الفلسطينيّون حتّى خارج غزّة، وتستند إلى التاريخ والمقالات الصحافية وتقارير المنظّمات الدولية وغيرها ما يثبت تورّط إسرائيل في مختلف أنواع الجرائم. «تتفهّم» في المقابل «خوف» الصهاينة «المدنيّين» وتحاول أن تشرح لهم أنّ «خوفهم» هذا مبني على وهم، وأنّ الخوف هو ما يشعر به الجانب الآخر. هكذا إذاً، تكون «كيتي اليهودية الأميركية» قد اتخذت موقفاً أكثر تقدّماً بأشواط من بعض العرب، وربّما أفادت القضية الفلسطينية أكثر من دول عربية بأكملها. وهي بالطبع حصلت على ثناء مؤيّدي القضية الفلسطينية ممّن يبدون لها كلّ الودّ، وهو ما اعتبرته كيتي دليلاً على إنسانية هؤلاء في مقابل حدّة الصهاينة الذين يهاجمونها وينعتونها بـ «اليهودية السيّئة» ويهدّدونها بالقتل. وهو ما تضحك عليه كيتي وتراه إسقاطاً لعقدهم النفسية عليها، وأنّ الهولوكوست أثّر في نفوس بعضهم إلى درجة بات مهووساً ولا يرى أنّه يرتكب محرقة أخرى بحقّ شعب آخر لم يؤذه بشيء.

كليو: إبادة وتطهير


على الطريق نفسه، تسير فتاة يهودية أخرى تتكلّم تحت اسم «كليو» (Clio)، واضعةً علم فلسطين إلى جانب نجمة داوود في الـ «بايو» على صفحتها لتأكيد يهوديتها ودعمها لفلسطين في الوقت نفسه. تنشر «كليو» مقاطعها على تيك توك مع تعريبها بين مجموعتَين: «فلسطين حرّة» و«البروباغندا الصهيونية». هكذا، تدأب الشابّة على شرح الأسباب التي يجب أن تدفع اليهود لدعم فلسطين لا إسرائيل، إذا أرادوا اتّباع ديانتهم بحذافيرها والتمسّك بهويّتهم، وتفضح كذلك الأكاذيب الصهيونية التي تُستخدم لتبرير الإبادة والتطهير العرقي. كما كيتي، تستخدم «كليو» أمثلة من حياتها اليومية كيهودية لإبراز حجم البروباغندا وإستراتيجيات غسل الأدمغة التي تتّبعها إسرائيل في الأراضي المحتلّة أو في الولايات المتّحدة على حدّ سواء. تتكلّم بطريقة سهلة الفهم لتصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس. تتوجّه إلى اليهود في بلدها حول سبل التخلّص (unlearn) من البروباغندا الصهيونية التي تعلّموها. لذلك تحاول استخدام تعابير قريبة منهم. تتناول مواضيع كثيرة، مثل «الصهيونية الليبرالية»، ونفاق وسائل الإعلام الغربية في تغطيتها لفلسطين، وحقيقة ادّعاء «معاداة السامية» الذي يستخدمه الصهاينة زوراً ويمزجونه مع كره اليهود، والقمع والرقابة اللذين تمارسهما سلطات الاحتلال في الأراضي المحتلّة، والنسوية المؤيّدة لفلسطين (لا الليبرالية المنافقة)، وغيرها.

◄ Weeping Phlegmons: ليست «حماس» المشكلة


هناك شابّة تظهر تحت اسم Weeping Phlegmons، خصّصت أيضاً مقاطع للحديث عن الإبادة المستمرّة بحقّ الشعب الفلسطيني، وكيف أنّ الصهيونية لا صلة لها باليهودية. تضع «كليو» نجمة داوود إلى جانب العلم الفلسطيني، وتنقل أخبار فلسطين وخصوصاً ما يعتّم عليه الإعلام في الغرب. كما أنّها أعلنت تضامنها مع «كيتي» قبل أيّام عندما حُجبت صفحتها على تيك توك قبل أن تنجح في استعادتها. تحرص على استخدام نبرة لطيفة ولغة مباشرة لإيصال فكرتها. ورغم أنّها تنشر أقلّ من زميلتَيها، إلّا أنّ المعلومات التي تعطيها ليست أقلّ أهمّية، وهي اشتهرت خصوصاً بسبب مقطع مطوّل ثبّتته على رأس صفحتها، ترتدي فيه قلادتَين تؤكّدان على انتمائها اليهودي، وتدحض فيه أكاذيب صهيونية وأوّلها أنّ إسرائيل تحارب حماس في غزّة، بينما من الواضح أنّ المستهدَف ليس سوى المدنيّين رغم الإمكانات الاستخبارية الضخمة لكيان الاحتلال. وتشرح لليهود في بلدها أنّ الصهيونية ليست ما يظنّونها وأنّ كلّ ما تقوم به إسرائيل باسم اليهودية، إنّما يخالف التوراة ولا يمثّل اليهود. وتردّ كذلك بمقاطع مصوّرة على ما تتعرّض له من تهديدات من الصهاينة، بل تفنّد ما يقولونه لها. وبينما هم يعتبرون أنّهم يقلّلون من شأنها، لكن في الحقيقة كلّ ما يفعلونه لا يعدو كونه علكاً لسرديّات كاذبة وتعابير عنصرية.