أصبحت للعرب خطوط حُمر، تتمثّل في «وجوب ألا يكون هناك إرهاب في غزة» أو الضفة الغربية ضد الاحتلال الإسرائيلي، في تصعيد عربي خطير ضد المقاومة الفلسطينية التي تنتظر السند، السياسي والإعلامي، من جوارها العربي، في مواجهة الاعتداءات الأميركية - الصهيونية. وصم المقاومة بـ«الإرهاب»، ليس عابراً، ويكشف انخراطاً عربياً، بات معلناً، في النهج الغربي؛ فلا ينظر «حلف الاعتدال العربي»، بقيادة السعودية، إلى الجهد الفلسطيني المناوئ للاحتلال على أنه مقاومة، بل يصنّفه «إرهاباً»، يساويه بـ«القاعدة» و«داعش»، وبالتالي، تتوجّب مواجهته عسكرياً بتحالف دولي، وتجفيف ينابيعه مالياً، وكشف الغطاء عنه سياسياً، وحظر التعامل معه إعلامياً. في المقابل، على إسرائيل عدم تجاوز الخطوط الحُمر العربية، المتمثّلة في «عدم التهجير القسري للفلسطينيين، وعدم إعادة الاحتلال، وعدم تقليص حدود غزة»، أثناء تنفيذها العملية العسكرية الدامية، التي يعتبرها الحلف المذكور «مشروعة»، ما دامت موجّهة إلى «الإرهاب» الفلسطيني!
أولاً: من أين علمنا بهذه الخطوط؟
تلك الخطوط أعلنها ولي العهد البحريني، سلمان بن حمد، يوم الجمعة الماضي، في منتدى «حوار المنامة» الدولي. وتنبع أهمية الموقف البحريني من كونه ناطقاً باسم «الحلف السعودي». في مطلع أيلول 2020، صرّح الملك البحريني، حمد بن عيسى، أثناء استقباله كبير مستشاري البيت الأبيض الأسبق، جاريد كوشنر، قبل أيام من إعلان التطبيع الإماراتي - البحريني مع الكيان، أن المنامة ما كانت لتمضي في إبرام «اتفاقيات أبراهام» إلا بضوء أخضر من «الشقيقة الكبرى».

ثانياً: مصر... تطمينات أميركية
إذا أخذنا مصر نموذجاً، وهي الدولة الكبرى في الجوار الفلسطيني، وعلى المستوى العربي، فإن المعطيات المتوافرة تفيد بأن القاهرة حصلت على تعهدات أو تطمينات أميركية بامتناع إسرائيل عن تهجير مواطني غزة إلى سيناء، وهي الأولوية التي تشغل الحالة الرسمية المصرية، الغارقة في بحر من المشاكل، فيما يركّز الرئيس عبد الفتاح السيسي على إعادة «انتخابه» بأقل قدر من الصخب والمتابعة الغربية. هاتان الأولويتان (منع التهجير، وإعادة انتخاب الرئيس) تضعان على الهامش الحرب المستعرة منذ نحو 45 يوماً، ونتائجها المدمّرة للقطاع، وتظهران النظام العربي، لأسباب شبيهة، وليس مصر وحدها، مستسلماً لإخضاع المساعدات الإنسانية لفيتو إسرائيلي، ومتلعثماً أمام الضغط الغربي.

ثالثاً: الأردن أولاً
لا تختلف الحالة الأردنية عن المصرية، لجهة التحدّيات الجمّة التي تواجهها، وأولوية علاقتها بواشنطن. ما يهم عمّان أن لا يُنقل مواطنو الضفة الغربية إلى الأردن، الذي حصل على التطمينات ذاتها من أميركا، كما تم منحه ضوءاً أخضر لتصعيد كلامي، وصل إلى التهديد بإعلان حرب ضد الكيان، لا أحد يأخذه جدياً، في حال قيام الاحتلال بعمليات تهجير إلى المملكة، التي تغصُّ بالفلسطينيين. هذا الخواء العربي يتم تبريره بشعارات الأردن أولاً، ومصر أولاً، والسعودية أولاً، التي تعزل الأقطار العربية بعضها عن بعض. وفوق ذلك يساهم هذا الحلف في غزو العراق، وتدمير سوريا، وحصار لبنان، وتقسيم ليبيا، وتهميش اليمن، واتخاذ الجوار الإسلامي خصماً، وإدماج الكيان في المنطقة. لكن أما وقد أخفقت أميركا في تطبيق وعدها، الذي أطلقته منذ ثلاثين عاماً، بحل الدولتين، فلا يُعرف مدى التزامها بمنع تشريد الفلسطينيين إلى أراضٍ مصرية وأردنية، في ظل استمرار القصف الجوي والتوغّل البري، الهادف إلى حرق الأخضر واليابس، وإحالة قطاع غزة ركاماً غير صالح للسكن.

رابعاً: التهجير المقبول عربياً
يبدو أن مصر والأردن، وعموم «الحلف السعودي»، لا يعتبرون نقل الفلسطينيين إلى أجزاء أخرى داخل القطاع والضفة تهجيراً، فهذا النوع يُسمّى «نزوحاً»! ومنذ 7 تشرين الأول، هجّر المستوطنون المدعومون من جيش الاحتلال، نحو ألف فلسطيني من بيوتهم في الضفة، وشرّد القصف مئات الآلاف من بيوتهم في قطاع غزة، من دون أن نسمع إدانة عربية جادّة. ولم يُسجّل رفض جادّ، أردني أو مصري، لتهجير الفلسطينيين إلى النقب. وهذا احتمال لا تُخضعه إسرائيل للنقاش، إلا ضمن تبادل للأراضي كما تشرحه «صفقة القرن»، المرفوضة حتى من محمود عباس. ولا يوجد اعتراض عربي على التهجير إلى الغرب، أو أي دول أخرى قد ترغب في ذلك، مع أن الدول العربية سترفض في الغالب استقبال لاجئين فلسطينيين، في إطار ما يُسمى «التهجير الطوعي».

خامساً: ممرّات العبور
لا يظهر أن القاهرة وعمّان ستمانعان تحوّل مطاراتهما إلى ممر لعبور الفلسطينيين إلى دول أخرى، شرط أن لا تكونا محطتي ترانزيت وانتظار لمدى طويل أو غير معلوم. ولأميركا خيارات أخرى للالتزام بضماناتها لحليفتيْها، القاهرة وعمّان، بما في ذلك استخدام المطارات الصهيونية، أو ميناء غزة، لنقل ما يمكن من غزّيين إلى خارج القطاع، لكن هذا يحتاج إلى مزيد من إطلاق النيران على رؤوس الفلسطينيين، لإقناعهم، أو إجبارهم، على القبول بأن «نكبة» ثانية قد تكون أفضل من موتهم وقوفاً.

سادساً: فخّ التهجير القسري
إضافة لفظ القسري إلى التهجير المرفوض، تكفي لإظهار تفهّم العرب لأنواع من التهجير، تُعطى مسمّيات بديلة. والمطلوب، رفض التهجير تحت أي مسمى، واتخاذ الإجراءات التي تهيّئ السبل لتمكين الفلسطينيين من استعادة أراضيهم وإقامة دولتهم. وإذ يتكرّر هنا ذكر العاصمتين، عمّان والقاهرة، فلأن «الحلف السعودي» سيوافق حتى على ما يُسمى «التهجير القسري» في حال قبله هذان البلدان أو بلدان أخرى، بغضّ النظر عن موقف المُهجّر، ومدى انعكاس ذلك على تصفية القضية العادلة. ولمن لا يأخذ مسألة التهجير بجدّية، فهو ذاته لم يتوقّع الحرب على سوريا، واليمن، وحجم القصف على غزة، وهو ذاته الذي لا يزال يستبعد التطبيع السعودي.

سابعاً: الخطوط الخُضر
إعلان الخطوط الحُمر، يكشف في المقابل الخطوط الخُضر العربية التي يمكن للعدوان الأميركي - الصهيوني المضيّ فيها، والتي تتفهّمها الحالة العربية الرسمية، أو تتوقّعها، وقد تنخرط فيها، وأبرزها «حق» إسرائيل في القضاء على المقاومة، و«حقّها» في تقويض حكم «حماس»، وتحطيم مقدّراتها السياسية والعسكرية، أي تحطيم القطاع. فهذه الأهداف لا تندرج ضمن الخطوط الحمر، بل بات واجباً على العالم والكيان والعرب تحطيم «الإرهاب» الفلسطيني.
موقف «الحلف السعودي» هذا ينبع من تبعية عمياء لأميركا. ومن دون استقلاله عنها، سيظلّ عاجزاً عن مساعدة نفسه، وعبئاً على فلسطين. ولم يدرك هذا الحلف بعد، أن الانحياز الأميركي المطلق إلى الكيان، على حساب العرب، يستدعي تأمّلاً عميقاً، وإعادة نظر في طبيعة العلاقات والتحالفات.