خلال الساعات المقبلة ستتضح مفاعيل الهجوم على سفينة مملوكة من رجل أعمال إسرائيلي كانت تمر في البحر الأحمر، على التجارة العالمية. فهذه الخطوة ليست محصورة بالتأثير على الكيان الإسرائيلي فحسب، بل في الضغط على اللاعبين الدوليين الذين سيتحتّم عليهم التعامل مع هذا الكيان بوصفه متورطاً في تخريب التجارة العالمية التي يمرّ 12% منها عبر مضيق باب المندب في البحر الأحمر.بهذه الخطوة يكون الحوثيون قد أرغموا الدول الكبرى على اتخاذ موقف مختلف من الكيان الإسرائيلي قياساً على الدعم الذي حظي به الكيان منهم على مدى الأسابيع الماضية، في تغطية حربه على عزّة.

التأثير على اللاعبين الآخرين خلافاً لإرادتهم، يتمثّل في أنه يمرّ عبر باب المندب نحو 6.2 ملايين برميل نفط يومياً بحسب آخر إحصاء نشرته إدارة معلومات الطاقة الأميركية في عام 2018. مجمل التدفقات النفطية عبر هذا المضيق تمثّل نحو 9% من إجمالي النفط المنقول بحراً. وعبره أيضاً تتحرّك نحو 3.6 ملايين برميل يومياً شمالاً نحو أوروبا، بينما يتدفّق 2.6 مليون برميل يومياً في الاتجاه المعاكس بشكل رئيسي إلى الأسواق الآسيوية مثل سنغافورة والصين والهند.
صحيح أن النفط هو السلعة الأهم التي تمرّ عبر باب المندب، لكن حصّته من التجارة العالمية الإجمالية كبيرة جداً. إذ تعبر المضيق، سنوياً، أكثر من 21 ألف سفينة بحرية بمعدل 57 سفينة يومياً، وهو ما يشكل 12% من حجم التجارة العالمية، علماً بأن 98% من البضائع والسفن الداخلة التي تمر عبر السويس تمر أيضاً من خلال باب المندب.
وأهمية هذا المضيق أنه ممر إجباري لتقليص أكلاف شحن السلع والنفط. فهو لا يعدّ الممر الوحيد للشحنات، بل الأقصر طريقاً بين منابع النفط ودول الاستهلاك. فبإمكان حاملات النفط الآتية التي تقصد الذهاب إلى أوروبا وأميركا الشمالية، تجنّب باب المندب عبر السفر حول الطرف الجنوبي لإفريقيا، إلا أن الطريق الرديف سيزيد مسافة الرحلة من الفجيرة عند مخرج الخليج العربي، إلى هيوستن، بنحو 2660 ميلاً بحرياً، أو 28%. وستزيد المسافة نحو روتردام بنحو 4800 ميل بحري، أو 78%، في حين أن المسافة نحو أوغوستا في إيطاليا ستكون أطول بثلاث مرات تقريباً، أي 10860 ميلاً بحرياً. تستغرق الرحلة من المملكة العربية السعودية إلى روتردام نحو 22 يوماً عبر باب المندب وقناة السويس، مقارنة بـ 39 يوماً حول إفريقيا، بحسب البيانات التي جمعت من تتبع ناقلات بلومبرغ.
تستغرق الرحلة من السعودية إلى روتردام نحو 22 يوماً عبر باب المندب وقناة السويس مقارنةً بـ 39 يوماً حول إفريقيا


من شأن زيادة المسافات أن تزيد من أكلاف الشحن والوقود. وطبيعة السيطرة بالنار على المضيق تعني أن أكلاف التأمين ستزيد أيضاً، وستهدّد بتعطيل إمدادات السلع وسلاسل التوريد. وهذا يعني أن هذه الخطوة ستنعكس على أسعار السلع في وقت يعاني فيه العالم من أزمة اقتصادية غير مسبوقة عنوانها الأساسي تضخّم الأسعار. هذه المرّة لن يكون مصدر ارتفاع الأسعار تلك الأموال التي طبعتها أميركا وأوروبا بشكل جنوني على مدى سنوات مضت، بل سيكون الارتفاع مرتبطاً بارتفاع مستوى المخاطر على سلاسل التوريد من خلال التأثير على عامل الندرة، سواء في وجود ممرّات أكثر كلفة لتصدير واستيراد البضائع والنفط، أو في درجة اليقين من وصول السلع إلى دول المقصد.
هذه الخطوة تتعلق بمدى رغبة اللاعبين الدوليين في تكبّد الخسارة الناتجة من استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، وهو ما سماه جون ناش بـ»توازن التوازن»، أي عندما يضطرّ اللاعبون إلى اتخاذ قرارات عقلانية تتعلق بحجم خسارتهم الفردية في بيئة معرّضة للصراعات. فخيار الصمت عما يحصل لن يصبّ في مصالح الدول الفردية نظراً إلى التأثير الكبير المنتظر على هذه الخطوة على الأكلاف والأسعار. وبالتالي سيتحتّم عليهم أن يسلكوا خياراً استراتيجياً مختلفاً عما يرونه وضعاً مثالياً الآن بالنسبة إليهم. وهذا الأمر ليس محصوراً بهؤلاء اللاعبين فقط، بل بكل المتضررين والمستفيدين من هذه الخطوة التي ستعيد خلط الأوراق. فما حصل في غزّة في السابع من تشرين الأول ستكون له تأثيرات واسعة على سلوك الجميع وعلى قراراتهم خارج الإطار الذي اعتادوا عليه أو زعموا أنهم يسيرون فيه. ونظرية ناش لا تنحصر بذلك، بل تشير إلى التأثيرات التي تتعلق بالخيارات المتاحة أمام «سجينَين» وسلوك أحدهما تجاه الآخر عندما يصبحان في مواجهة المصير المستقبلي.